الأمازيغية ليست حصان طروادة

جهات تنتمي إلى شلل داخل أجنحة النظام الحاكم في الجزائر تسعى إلى تحريك قضية الثقافة واللغة الأمازيغية بشكل سلبي.
الاثنين 2020/03/09
ثقافة متجذرة لا يمكن طمسها

في هذا الأسبوع عادت قضية اللغة الأمازيغية وحمولتها الثقافية إلى مسرح النقاش الدوغمائي في الجزائر على مستوى وسائل الإعلام المختلفة، بعد الضجة المفتعلة التي رافقت منذ مدة ظهور الراية الثقافية الأمازيغية في مظاهرات الحراك الشعبي. ها هي ضجة أخرى يثيرها بعض المثقفين بالتراجع عن الاعتراف بالأمازيغية.

يبدو واضحا أن هناك عدة جهات تنتمي إلى شلل داخل أجنحة النظام الحاكم في الجزائر تسعى إلى تحريك قضية الثقافة واللغة الأمازيغية بشكل سلبي، من خلال إقحام عدد من الناشطين الثقافيين أو السياسيين والمعلقين في وسائل التواصل الاجتماعي فيها بشكل مفتعل.

وبهذه المناسبة نتساءل: لماذا انبرى أحد الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي منذ أيام قليلة وقال “تاريخيّا يتحمّل بوتفليقة المسؤولية السياسية والأخلاقية في اعتماد الأمازيغية لغة رسمية… إنه لغم مزروع في الوحدة الوطنية نتمنى أن نتعامل بحكمة من أجل تفكيك اللغم… حتى لا ينفجر”.

أزمة مفتعلة

نتساءل بدورنا ما هي الأغراض المبطنة لرجل سياسي ودبلوماسي ينتمي إلى النخبة المثقفة، وهو الدكتور عثمان سعدي، الذي وقف على مدى سنوات ضد ترسيم اللغة الأمازيغية، ثم كيف نفهم نفس الموقف الذي اتخذه ويصرّ عليه اسم آخر له دار نشر وأستاذ جامعي ومترشح للرئاسيات الأخيرة، وهو الدكتور أحمد بن نعمان، علما أن الرجلين ينتميان إلى الإثنية الأمازيغية، حيث أن أحدهما ولد وترعرع في العمق الجغرافي الأمازيغي بالأوراس، وثانيهما من أبناء قرية سيدي نعمان بتيزي وزو المعروفة كأحد معاقل الثقافة واللغة الأمازيغية والعربية معا؟ وهل يعقل أن يعتبر برلماني سابق كان مكلّفا بالإعلام لدى وزارة الشؤون الدينية في فترة الوزير غلام الله أن “دسترة الأمازيغية من طرف بوتفليقة ليست قرارا تاريخيا في الاتجاه الصحيح وإنما هي نكبة تاريخية في الاتجاه الخطأ ويجب أن تسقط من الدستور الجديد”.

كيف يصدق إنسان عاقل أن يكون الاعتراف باللغة الأمازيغية وترسيمها مجرَد صدقة من الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، وليست حقَا تاريخيا ونتاجا لنضالات المواطنين من أجل وضع حدَ لجميع المحاولات الرامية إلى طمس جزء من التاريخ الثقافي الجزائري متجذر الأصول في شمال أفريقيا على مدى قرون؟ ولماذا يريد هؤلاء وغيرهم التحريض على الإجهاز على الثقافة الأمازيغية التي لا يذكر التاريخ أبدا أن القادة المسلمين الرواد الذين عرفتهم الجزائر قد مارسوا أي عداء أو اضطهاد ضد اللغة الأمازيغية وتقاليدها الثقافية؟ ولماذا يحدث كل هذا الضجيج الآن ضد الأمازيغية في الجزائر في الوقت الذي تكرم فيها المملكة المغربية أصولها الثقافية الأمازيغية وتواصل ترسيخ ترسيمها كجزء مكوّن لأركان الهوية الثقافية الوطنية للشعب المغربي الشقيق؟

الاعتراف باللغة الأمازيغية جاء نتاجا لنضالات المواطنين من أجل وضع حد لمحاولات طمس جزء متجذر من التاريخ الثقافي الجزائري
الاعتراف باللغة الأمازيغية جاء نتاجا لنضالات المواطنين من أجل وضع حد لمحاولات طمس جزء متجذر من التاريخ الثقافي الجزائري

في هذا السياق ينبغي القول إن المجتمع الأمازيغي في الجزائر هو مجتمع التسامح الثقافي واللغوي وقلعة للثقافة العربية ويستنكر مواطنو هذا المجتمع الزج باللغة الأمازيغية في مشاريع تصفية الحسابات السياسية، ويرفض استخدامها كحصان طروادة للنفاذ إلى المناطق الهشة في النسيج الجزائري قصد تقطيع أوصالها بواسطة تفجير بارود الصراع الذي يهدد الأمن الوطني والوحدة الوطنية؟

على هذا الأساس يستغرب كثير من المثقفين الأمازيغ المؤمنين بالوحدة الوطنية وبالتنوع الثقافي اللغوي في الجزائر أشكال النكوص المتمثلة في الدعوات التراجعية عمّا تحقق على صعيد التعايش اللغوي والثقافي بين الأمازيغ والعرب.

وفي هذا الخصوص ينبغي التذكير مرة أخرى أن البعد الثقافي واللغوي الأمازيغي (ضمن تركيبة الهوية الوطنية الكلية) قد عولج سياسيا أثناء تعديل الميثاق الوطني في ثمانينات القرن العشرين من قبل اللجنة الوطنية الفرعية المكلفة حينذاك من طرف اللجنة الوطنية العليا، برئاسة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد بذلك التعديل، وكنت عضوا دائما في تلك اللجنة التي ترأسها في ذلك الوقت عضو الأمانة الدائمة لحزب جبهة التحرير الوطني عبدالحميد مهري بعضوية شخصيات وطنية منهم وزراء أمثال مولود قاسم نايت بالقاسم وعبدالرحمن شيبان وعبدالحق برارحي وغيرهم.

ولقد كان انفتاح حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم حينذاك على البعدي الثقافي واللغوي الأمازيغي وإدراجه رسميا كركن مكوّن للهوية الوطنية إلى جانب اللغة العربية والتراث الإسلامي الروحي والثقافي والحضاري خطوة إيجابية للانتقال من حلبة صراع الديكة حول الهوية إلى مرحلة النضج السياسي، لتفعيل العمل على تحديث وعصرنة مكوناتها وإثرائها بالإنجازات التي تحققت ولا تزال تتحقق على مستوى الثقافات الإنسانية.

تناقضات وتجاذبات

المجتمع الأمازيغي في الجزائر هو مجتمع التسامح الثقافي واللغوي وقلعة للثقافة العربية ولا مجال لتصفية الحسابات من خلاله
المجتمع الأمازيغي في الجزائر هو مجتمع التسامح الثقافي واللغوي وقلعة للثقافة العربية ولا مجال لتصفية الحسابات من خلاله

من المؤسف حقَا أن المحاولات التي تبذل حاليا من أجل العودة إلى الصفر، والتراجع عن مكسب الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية هي محاولات تريد أن تقفز على المكاسب المذكورة آنفا، وأيضا على واقع المشكلات الحقيقية التي تواجهها الثقافة الجزائرية المتخلفة سواء على مستوى اللغة العربية أو الأمازيغية، وبذلك يضرّ أصحاب هذه المحاولات بالمصلحة الوطنية واستقرار البلاد بشكل خاص.

ويلاحظ، في هذا السياق، أن النزعة الغالبة على الدعوة إلى سحب الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة وطنية رسمية من الدستور الحالي بعد تعديله المنتظر خلال الشهور القليلة القادمة تدخل في تقديرنا في إطار تكريس الهيمنة الأحادية، وإنكار حقائق التاريخ وواقع تنوع المجتمع الجزائري.

ولا شك أن مثل هذه الدعوة قد تجرّ البلاد إلى ما لا تحمد عقباه لأن الحدة التي تظهر بها راهنا تأخذ شكل مقدمات لإشعال الصراع حول مكوّنات الهوية الوطنية الجزائرية، وتهديد البلاد بمعركة خطيرة قد تؤدي إلى تفجيرات يمكن أن تعيد الجزائر إلى مربع الصفر الذي حشرت فيه في فترة ثمانينات القرن الماضي والعشرية الدموية.

في هذا السياق فإن الجماعة التي تحرّك هذا النمط من النقاش الانفعالي المغرض تقامر بسلامة الأمن الوطني، وتنساق بوعي زائف حينا وبجهل مطبق حينا آخر لحقائق العصر الحديث الذي يتميز بمنجزات التنوع الثقافي الديمقراطي وبذلك نجدها تنساق وراء إعادة رسكلة مشاريع الأحادية الثقافية والسياسية التي تتناقض مع حقائق المجتمع الجزائري متعدد الإثنيات والمرجعيات اللسانية والثقافية، ومع مطالب الأجيال الجديدة التي تدعو إلى التعايش الإثني والثقافي واللغوي في إطار وحدة وطنية مؤسسة على روابط الرأسمال الوجداني والتاريخي المشترك.

وفي الحقيقة فإن أزمة المشهد الثقافي الجزائري العام تنبع من التناقضات والتجاذبات السياسية والتطاحن على مناصب النفوذ المادي والرمزي، أكثر مما هي ترجمة حقيقية للإحساس العميق بالقلق على تضييع الفرص لبناء مشروع ثقافي وطني عصري على أنقاض التخلف المستشري في مفاصل البنيات الثقافية الوطنية، وفي المقدمة تخلّف اللغة العربية الذي عطل ويعطل ثورة التجديد والانتقال من نزوات اللفظ إلى حضارة الأداء وفق لتعبير الدكتور زكي نجيب محمود، وجمود الثقافة الأمازيغية بمختلف لهجاتها في المجتمع الجزائري رغم بعض الإنجازات القليلة جدا التي تحققت على صعيد الإنتاج الأدبي الإبداعي والبحث الأنثروبولوجي والتراث المحلي، علما أن هذه الإنجازات لم تجد بعد مناخا يحتضنها، ويدفع بها لتحتل مكانتها كرأسمال رمزي في الساحة الثقافية الوطنية والمغاربية والمشرقية العربية والدولية.

15