الأصدقاء الطيبون أشقاء الروح.. موضع ثقتنا ومستودع أسرارنا

يُحدث مجرد وجودنا في حياة الآخرين فرقا وقيمة مهمين، لأنه يعزز شعورهم بالرضا والسعادة والعيش الرغيد.. والعكس صحيح أيضا؛ حيث إن وجود الأصدقاء أمر حيوي في حياتنا وقاسم مشترك لأحداث حياتنا بحلوها ومرها في جميع الأوقات والمراحل العمرية. وفي معنى الصداقة وأهميتها، عبّر العديد من الكتّاب، الشعراء والفلاسفة عن أفكارهم حول ما يتعلق بقيم الصداقة.
يرى الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس، أن الصداقة تعني المشاركة الوجدانية والعطف المتبادل، باعتبارها ضرورة في الحياة لا يمكن للإنسان مهما علا شأنه وزادت موارده أن يستغني عنها، وهي من وجهة نظره ضرب من الفضيلة محدودة بحد الوسط بين الإفراط وهو القبول المفرط من الناس، والتفريط وهو الرفض المطلق منهم.
الصداقة؛ محبة خالصة متجردة وعطف متبادل بين الأصدقاء يدفعهم إلى التعاون والتكاتف في ما بينهم من دون البحث عن منفعة شخصية.. الأصدقاء هم الملاذ الوحيد الذي يمكننا الاعتصام به في أوقات الشدائد المختلفة.
ويحدد أرسطو ثلاثة أنواع من الصداقة وهي: المنفعة، المتعة والخير، في الصداقات المبنية على المنفعة والمتعة أو المرح، يحضر في أذهاننا أولئك الأشخاص الذين يمكن أن نعتمد عليهم في مهام يومية صغيرة.. قد يكونون الجار الذي يراقب منزلنا أثناء سفرنا ويستلم البريد.. أو الغرباء الذين يجلسون قبالتنا في القطار في رحلة طويلة فلا نجد بديلا عنهم لتبادل الأحاديث وتمضية الوقت الطويل الممل، حيث تدور حول الاستمتاع ببساطة بصحبة الآخر وقضاء وقت ممتع معا لمجرد تبادل الأحاديث بعيدا عن المشاكل الشخصية أو أي مخاوف قد تزعجنا.. فلا شروط في هذه الصداقات ولا ارتباطات أو التزامات معينة حيث تمثل علاقات عرضية عابرة وغير كاملة.
وينتهي هذا النوع من العلاقات في الغالب بسرعة ومن دون خسائر وجدانية تذكر، لأنها مرهونة بزمان ومكان أو ظرف معين. إلا أن صداقات “الخير”، كما حددها أرسطو، فهي صداقات مبنية على الفضيلة والطيبة تقوم على الاحترام المتبادل والمحبة الخالصة والتقدير، من المحتمل أن تبدأ كعلاقة سطحية تحكمها ظروف الحياة أو الالتقاء في مكان مشترك أو لتحقيق مصالح مشتركة ثم لا تلبث أن تغنيها فرص متتابعة، لاكتشاف صفات وهوايات مشتركة يمكنها أن تعمق هذه الصداقة إذ أن جودة العلاقة وعمقها واستمراريتها تفوق تلك الموجودة في أنواع الصداقة الأخرى، حتى لو تباعدت اللقاءات فإنها تحتفظ ببريقها وتصمد أمام الزمن.
وتؤكد سوزان وايت؛ أستاذة ورئيسة قسم الاستشارات في تعليم الكبار والتعليم العالي في جامعة إلينوي الأميركية، على أن معظم الناس يحتاجون إلى علاقات صداقة لا تنتهي، بصرف النظر عن نوعها بحسب تصنيف أرسطو وغيره.. إلا أن السؤال الأهم في خضم هذه المفاهيم المتعددة، هو كم نحتاج من الأصدقاء المقربين جدا في حياتنا؟ وهل يختلف الأمر إذا كنا بالفعل نمتلك أصدقاء من ضمن تصنيفات أخرى؟
وجاء في مقالها الأخير في مجلة “علم النفس” الأميركية، توضيحا لبيانات دراسة حديثة ما زالت قيد المراجعة، لعينة مكونة من عدد كبير من الكهول من الجنسين امتدت أعمارهم من الثلاثين إلى السبعين عاما، بأن عدد الأصدقاء المقربين الحقيقيين قد لا يتجاوز أربعة أو خمسة أصدقاء على أكثر تقدير.. حيث يتمتع البالغون الذين يمتلكون هذا العدد المحدود من الأصدقاء المقربين، بأعلى مستويات الرضا عن حياتهم الشخصية.
وتؤكد وايت “إذا كان لدينا صديق واحد فقط يحمل صفات الصديق المخلص على وفق مبدأ أرسطو في الفضيلة والمحبة، فهذا يبدو كافيا ليترك أثرا إيجابيا في حياتنا بمجملها”.
ويحدد متخصصون في العادة أربعة أنواع من الأصدقاء بحسب مستوى عمق العلاقة بين الطرفين؛ فهناك الصديق من المعارف، الصديق العرضي، الصديق المقرب والصديق الحميم وهو الأكثر قربا من غيره، حيث تربطنا معه أواصر محبة ومشاعر مودة واحترام كبيرين، إلى درجة يصبح من الصعب علينا فراقه أو حتى الاستغناء عن وجوده في حياتنا.
وتوصف طبيعة علاقتنا بأصدقاء المعرفة البسيطة، بأنها علاقة سطحية بحكم لقائنا بهم بصورة شبه منتظمة، على أن يسمح هذا النوع من الصداقة بإجراء حوارات قليلة وغير جدية في الغالب، في الوقت الذي لا نمتلك فيه الرغبة في التواصل المستمر معهم لعدم وجود ارتباط عاطفي عميق يبرر هذا التواصل.
الصديق الحميم هو موضع الأسرار الدقيقة ومصدر ثقة لا متناهية، وهو جزء لا يتجزأ من الأسرة
أما الأصدقاء العرضيون فهم الذين تجمعنا بهم عادة بعض الأنشطة المشتركة، كأن يكونوا طلابا في فصل واحد أو زملاء عمل.. ربما نشعر تجاههم بمحبة ونقضي معهم أوقاتا طيبة أو حتى نخرج معهم في نزهة ما، لكنهم أشخاص كان من الممكن أن لا تكون لنا بهم صلة لو لا هذه المصادفة التي جمعتنا في نشاط واحد، وبالتالي، من النادر أن نحاول تطوير علاقتنا بهم أو تمتين أواصرها بعد انقضاء النشاط المشترك أو مكان العمل الواحد.
وفي الغالب، تبدأ علاقتنا بالأصدقاء المقربين على اعتبارهم أصدقاء معرفة ليتحولوا إلى أصدقاء عرضيين، ثم تتطور العلاقة بصورة كافية بسبب التقارب والمشتركات والإعجاب الشخصي وقضاء أوقات صحبة ممتعة، وكلما ازدادت المشتركات واتسعت دائرة المعرفة كلما تعمقت وتطورت العلاقة فهم الأصدقاء الذين نلجأ إليهم عندما نواجه صعوبات في الحياة، فنحتاج إلى كتف نبكي عليه عندما نكون في مزاج سيء.. نشاركهم أسرارنا وأحزاننا ونرمي عليهم أحمال همومنا.
ومع ذلك، يتفوق الصديق الحميم على كل هؤلاء، فهو موضع للأسرار الدقيقة ومصدر ثقة لا متناهية مع علمنا الأكيد بأنه موضع لهذه الثقة، لا يمكن أن تصدر عنه خيانة ولا يخذلنا أبدا حتى يصل الأمر بأن نسبغ عليه أحيانا صفة “أخوة الروح”، وهو جزء لا يتجزأ من أسرتنا الصغيرة وركن مهم وأساسي في حياتها الاجتماعية.