الأدب ضيفا على التلفزيون

لم ينتبه الكثيرون إلى التقرير الصادر، قبل سنتين، عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المغربي بخصوص “المضامين الثقافية والإعلام”. وهو التقرير الذي تكمن أهميته، بشكل أساس، في خصوصية الجهة التي أعدته وهي مؤسسة دستورية تقوم بمهام استشارية في جميع القضايا ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. وإن كان التقرير لا يستند في الكثير من جوانبه إلى معطيات إحصائية وميدانية، فاتحا الباب أحيانا لهامش كبير من الأفكار الانطباعية.
بعد مرور سنتين على صدور التقرير وتوصياته، لا شيء تغير في المشهد. إذ تكفي الإشارة هنا إلى أن أكثر من نصف المغاربة يفضلون التيهان داخل فيضان الفضائيات العربية والأجنبية، محجمين عن متابعة قنواتهم الوطنية.
وإذا كان التقرير يتناول محدودية حضور مضامين الثقافة بمختلف تعابيرها ومكوناتها واتجاهاتها فلنا أن نتصور حجم حضور الأدب في التلفزيون المغربي. إذ يبدو كالضيف الثقيل الذي يحضر ويختفي حسب الأمزجة والأشخاص. ولعل برنامج “مشارف”، خير نموذج في هذا السياق. إذ استطاع البرنامج امتلاك قدرة مذهلة على الاستمرار في الحياة طيلة أكثر من عشر سنوات، بفضل أبسط الشروط، حيث تم تغيير ديكوره مرة واحدة خلال عقد من الزمن. ولم ينج البرنامج من التوقيف أو من تأجيل حلقاته كلما تزامن مع “أوليات” أخرى، ومن ذلك ما حدث أثناء تعويضه بفيلم هندي، ثم تعليقه أثناء تنظيم مهرجان موازين الشهير. وذلك قبل أن يتوقف البرنامج بشكل نهائي، بعد أن دخل معده الشاعر عدنان ياسين تجربة أخرى عبر بيته.
ولعل هذا الوضع لا يرتبط بالمغرب فقط. إنه نفسه الذي يطبع المشهد الإعلامي العربي، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة. إذ يندر على سبيل المثال أن يكون الكتاب الأدبي ضيفا على البرامج الكبرى، وذلك في زحمة التنافسية بين الفضائيات وبحثها عن رفع عدد مشاهديها، بكل الطرق السريعة، التي قد يثقلها الأدب والثقافة معا، حسب منطق السوق والرغبة في تقاسم الإشهار.
استضافة التلفزيون للأدب لم تكن يسيرة وذلك بسبب الخوف المبكر من احتواء هذا الوسيط الجديد للأدب وللقراءة
وبمعزل عن الحالة العربية، لم تكن استضافة التلفزيون للأدب يسيرة. وذلك بسبب الخوف المبكر من احتواء هذا الوسيط الجديد للأدب وللقراءة، بحكم ارتكاز التلفزيون على الصورة التي تتعارض من حيث طريقتها في الإبداع والتلقي مع النص المكتوب.
بل إن الباحث الكندي مارشال ماكلوهان، أحد أوائل المنظرين للوسائط الجديدة، ذهب إلى أبعد من ذلك في كتابه الشهير “مجرة غوتنبرغ”. إذ يقر بتراجع الكتابة، في مقابل هيمنة الرسائل السمعية البصرية، التي يَعتبرها الشكل المناسب للإنسان والتي تقوده إلى “القرية الكونية”، مميزا بين الحضارة القائمة على الكتابة والحضارة المرتكزة على وسائل الإعلام.
لم تنجح توقعات ماكلوهان بنهاية الكتاب. بل أكثر من ذلك، سيصير الكتاب الأدبي الضيف المدلل للقنوات العالمية، ومنها بشكل أساس القنوات الفرنسية، التي شكلت الفضاء الأفضل للتداول في الكتاب. وبذلك، سيشهد البلد مع بداية خمسينات القرن الماضي برنامجه الأدبي الأول “القراءة من أجل الجميع”.
ولعل نجاح هذا التلاقي المدهش والمبكّر بين الأدب والتلفزيون يعود إلى طبيعة هذا البرنامج، الذي كان يستضيف الكِتاب وكاتبه، مع كل الهوامش التي تلامس حياة الكُتاب لأول مرة أمام الآلاف من المشاهدين.
وخلال ما يناهز الستين سنة، سيتناوب على القنوات الفرنسية أكثر من ثلاثين برنامجا أدبيا. ولعل أهمها برنامج “أبوستروف”. وهو الذي ما زال يشكل، بعد أكثر من ربع قرن على توقفه، علامة أساسية داخل خارطة البرامج التي تهتم بالكِتاب على مستوى فرنسا، بل وعلى مستوى العالم. إذ استطاع أن يشكل، طيلة خمس عشرة سنة، موعدا أساسيا، ليس فقط للنخبة الثقافية الفرنسية، ولكن أيضا لعموم الجمهور، حيث كان عدد مشاهديه يتجاوز في كل حلقة المليوني مشاهد.
نجاحُ برنامج أبوستروف يعود إلى العديد من العوامل. ولعل أولها يكمن في دينامية وشخصية صاحبه، برنار بيفو، الذي استطاع أن يبتعد ببرنامجه عن الحوارات التقليدية وأن يمنحه نكهة مختلفة تجمع بين الجدية وبعض المرح والتشويق، خصوصا مع هامش الحرية التي كان يمنحها للضيوف، بما فيها إمكانية التدخين. بل إن إحدى حلقات البرنامج ستشهد انسحاب الكاتب الأميركي تشارلز بوكوفسكي من البرنامج، بعد إكثاره من الشرب أثناء الحلقة الخاصة بروايته “نساء”.
أما قوة أبوستروف فتكمن في كونه الطريق الأسهل نحو تحقيق أرقام قياسية للكتب التي يستضيفها. إذ يكشف كتاب “أثر بيفو”، الموقَّع من الكاتب الفرنسي إدوار براسي، عن الترابط بين العناوين الأكثر مبيعا والمرور عبر أبوستروف، حيث إن أكثر من 80 في المئة من الروايات التي حققت مبيعات كبيرة كانت ضيفة على البرنامج.
قبل شهور، أعلنت القنوات الفرنسية عن توقيف ثلاثة برامج أدبية، وهي في.أي.رف، والكتب وأنتم، والدخول حر، لتكتفي فرنسا ببرنامجها الوحيد؛ المكتبة الكبرى. وإذا كان الأمر لم يمر دون احتجاج الناشرين الفرنسيين، الذين بادروا بنشر رسالة مفتوحة تحت عنوان “الكِتاب يجب أن يعود إلى التلفزيون”، فإن التوقيف، الذي حدث في بلد يحتفي بالكتاب، قد يبدو مؤشرا على العدّ العكسي لبداية نجاح توقع ما كلوهان!