الأب ميسور الحال محل تنافس بين الأبناء وزوجاتهم

السعي لكسب رضا الأب للحصول على عطاياه يعتبره علماء الاجتماع نوع من العلاقات المبنية على التملق والمصلحة وليس على الحب الخالص أو الصافي.
الجمعة 2021/02/05
العلاقات المبنية على التملق منبعها سوء السلوك

يشير علماء الاجتماع إلى أن الأب الكريم والمعطاء الذي ينفق على أبنائه بلا حساب، يساهم في جعلهم يتنافسون على إرضائه بغاية نيل المزيد من عطاياه. ويرون أنه ليس الأبناء فقط من يسلكون هذا الطريق مع آبائهم، فحتى زوجاتهم قد يقتدين بهم. ويصف علماء الاجتماع هذا النوع من العلاقات بأنها علاقات مبنية على المصلحة وليس على الحب الخالص.

يُحسن الكثير من الأبناء إلى آبائهم ويبرِّونهم ولا يرفعون أصواتهم أمامهم ليس حبا فيهم أو رأفة بهم وإنما طمعا في الظفر منهم بالمال والعطايا خصوصا إذا كانوا ميسورين. وقد يصبح التنافس بين الإخوة على أشده لإرضاء الأب الميسور، وقد يمتد هذا التنافس ليشمل زوجاتهم أيضا. فالكنة الذكية أو “المتملقة” تفعل أي شيء من أجل نيل رضا حماها الذي سيغدق عليها العطايا ما يجعلها تعيش وأطفالها حياة رغيدة.

وقالت ألفة النابلي، أربعينية موظفة في القطاع الخاص، إن والدها رجل ميسور الحال ورث عن أبيه أرضا فلاحية شاسعة تبلغ مساحتها المئات من الهكتارات وتنتج سنويا أنواعا من الخضر والغلال، لكنه بحكم تقدمه في السن لم يعد قادرا على التصرف فيها أو إدارة شؤونها مثل شراء البذور ومراقبة العمال، ما جعل إخوتها الثلاثة يصوّبون نظرهم نحو هذه الأرض ليغنموا من خيراتها.

وتضيف ألفة لـ”العرب” أن إخوتها غيروا أسلوب التعامل مع أبيهم وكذلك لغة خطابهم، فقد أصبحوا أكثر تفهما ولينا ومسايرة له، ليس لنيل رضاه وإنما لنيل نصيب من ماله. وتشير ألفة إلى أن واحدا من إخوتها أصبح يقيم مع والدها حتى يتسنى له نقله إلى المستشفى إذا أحس بوعكة صحية أو إذا أراد زيارة أخيه، مؤكدة أنه يترك زوجته وأولاده لوحدهم من أجل أن يكون بجانب أبيه، وهو الأمر الذي تشاطره فيه زوجته الرأي، فكل شيء يهون من أجل أن يحصل على موافقة والده بأن يصبح هو المهتم بأمور أملاكه ومنها الأرض.

وبدورها تشير رقية البالغة من العمر 50 سنة وهي أكبر إخوتها إلى أن زوجة أخيها لم تترك لهم مجالا لرعاية والدهم لأنها هي من تقوم بغسل ثيابه وإحضار طعامه وطبخ الأنواع المفضلة لديه من المأكولات، والسهر على راحته بتوفير كل متطلباته، ما جعلها تحظى بمكانة مميزة لديه فاقت حتى مكانتها هي وأختها الصغرى.

وتقول رقية لـ”العرب”، “لكن زوجة أخي لا تغدق الحب على أبي جزافا وإنما لغاية في نفسها”. وتضيف “لو لم يكن أبي ميسور الحال لما التفتت إليه، فالكل يعرف طينتها هي تفعل كل شيء من أجل أن يحصل أخي على نصيبه من مال أبيه قبل وفاته”. ويصف علماء الاجتماع هذا النوع من العلاقات بأنها علاقات مبنية على التملق والمصلحة وليس على الحب الخالص أو الصافي.

الكثير من الأبناء يحسنون إلى آبائهم ويبرِّونهم طمعا في الظفر منهم بالمال والعطايا
الكثير من الأبناء يحسنون إلى آبائهم ويبرِّونهم طمعا في الظفر منهم بالمال والعطايا 

وقال أمين أمكاح، الباحث الأردني في القيم والتواصل، إن من دأب على السير في طلب حوائجه بالتملق لا بد أن ينال طلبه، ويتساءل كيف لا يحصل ذلك والإنسان المعاصر يعيش فقرا قيميا لا مثيل له؟

وأضاف أن ذلك يعود إلى أمرين اثنين، أولهما فقدان الكثير من الناس لعزة النفس التي هي أمّ القيم النبيلة، وثانيهما أن المرء اليوم أصبح أكثر حبا للمداهنة وسماع المدح الزائد، وفي حاجة دائمة إلى تلميع صورته ولو بشيء زائف.

كما يرجع علماء الاجتماع هذا السلوك الذي يعتمده بعض الأبناء مع الآباء إلى طبيعة الآباء في حد ذاتهم ويصنفونهم إلى نموذجين، أولهما بخيل في الإنفاق على أبنائه إلى درجة الشح والحرمان، بحجة الخوف عليهم من مخاطر الإسراف والبذخ التي قد تعرضهم للفساد والانحراف. وثانيهما كريم معطاء ينفق على أبنائه بلا حساب حتى لا يشعرون بالحرمان، فلا يرد لهم طلب أبدا سواء بمنحهم هبات أو مكافآت أو قروض، وهو النوع الذي يساهم في جعل أبنائه يتنافسون على إرضائه بغاية نيل المزيد من عطاياه.

وقالت فاطمة الرقاد أخصائية علم الاجتماع، إن مسألة البخل أو الكرم تتوقف على طبيعة تربية وتنشئة الشخص نفسه، فالأب البخيل يكون قد ترعرع في بيئة تدقق في أدق التفاصيل، والمال بالنسبة إليها هو الأساس في الحياة، لذا يكون التعامل مع هذا العامل بمبدأ التقطير كي لا ينتهي، وهذا الشخص الذي يصبح البخل في دمه، يكون سببا في معاناة عائلته مستقبلا.

وأضافت أن الشخص الكريم بطريقة مفرطة هو أيضا غير متوازن، فهو لا يعرف كيف يحكم الأمور، وقد يكون كرمه المفرط على أبنائه هو سبب فشلهم أو انحرافهم، كما أنه قد يكون إثباتا على عدم ثقة الأب بنفسه، لذا كل شيء إذا ما زاد عن حده انقلب إلى ضده، والوسطية هي الحل في كل شيء.

ويشير أستاذ الحضارة بجامعة الزيتونة الصحبي بن منصور إلى أنه من أسباب الفتنة في الحياة المال لأنه سلطة وكل سلطة متنازع عليها.. وفي الموروث العربي يتمحور تحذير المرء من فتنتي النساء والمال، مؤكدا أن الأسباب الحقيقية للصراع في هذا الكون تكاد تنحصر حول المال والنساء.

ويضيف لهذا كله يشدد ديننا الإسلامي على المال الصالح للرجل الصالح في العمل الصالح، بمعنى أنه ينبغي تقنين مصادر المال ومصارفه واعتباره وسيلة السعادة وليس غاية في حد ذاته، والسعادة تكتمل بخدمة الأنا والآخر. فمن كمال الإسلام، وفق بن منصور، أنه يراهن على الثروة الأخلاقية فالزوجة الصالحة والزوج الصالح والأبناء الصالحون هم بركة وثراء.

الأب الكريم الذي ينفق على أبنائه دون حساب، يساهم في جعلهم يتنافسون على إرضائه لغاية مزيد نيل الكثير من ماله

وقال أستاذ الحضارة التونسي لـ”العرب”، “هذا طبعا على الصعيد النظري أما على المستوى المعيشي، فإن الواقع يقدم لنا صورا مخالفة للمنشود. فربّ العائلة يمضي كل وقته في جمع المال وكنزه وتنميته حتى يصبح إما أسيرا لعجلة الأعمال وسجين مواعيدها وإما عبدا للمال أو حارسا له. المهم أنه ينفق حياته في مراكمة الأموال والعقارات وبالتالي لا يجد متسعا لاحتواء أفراد أسرته عاطفيا وأخلاقيا، الأمر الذي يخلق فيهم إما فسادا أخلاقيا أو أنانية وغرور ا واستهتارا.. وبقدر ما هم ضحايا مناخهم المالي الأبوي فإنهم يمارسون في وقت لاحق دور الإخوة الذين يتآمرون على قتل الأب مثلما نطالعه في فكر فرويد وخيالات دوستوفسكي ونجيب محفوظ”.

وأضاف أن التطلع إلى التخلص من الأب وإزاحته عن عرش ثروته يبقى دائما مطمح أبنائه لاسيما سواء أكان به بخل أم قسوة واستعباد للغير. وتابع “من هنا وفي ظل مناخ مشحون ومتعفن لا سلطة للأخلاق عليه تنبت ممارسات لا قانونية ولا أخلاقية من قبيل ممارسة السحر والشعوذة وكل طرق التآمر على الأب والتحايل والتحيل عليه بالاستعانة بأطراف معلومة أو مجهولة لديه”.

وختم قائلا “إذا لم نسيّج المال بالقواعد الأخلاقية يصبح رب العائلة بمثابة السلطان الذي يعمل أفراد عائلته على إزاحته بكل الطرق من فوق عرشه، فهم بطانة السوء التي تحيط به. ولهذا فحول المال والأب الذي يستحوذ عليه تتشكل روح الشر وتنشب الصراعات المالية العائلية”.

21