الآخر الذي يحلّ بيننا

رحالة غربيون كثيرون جاؤوا إلى العالم العربي ودونوا رحلاتهم إليه في كتب تقدم رؤاهم للثقافة العربية.
الاثنين 2019/11/18
رحالة قدموا صورا عن العرب

في اللحظة التي كان فيها عدد من الرحالة العرب يغامرون بالذهاب إلى مناطق ما وراء جغرافيا العالم العربي والإسلامي بحثا عن التعرف على ثقافة الآخر الغريب وعلى عاداته، كان آخرون يحطون في الديار العربية والإسلامية، بشكل فردي أو في إطار بعثات مؤسساتية، يسبقهم في ذلك اختلاف نواياهم ومصادرهم المعرفية.

وإذا كانت الرحلات العربية قد استطاعت تحقيق سبقها التاريخي، كما هو حال الرحلات الأولى التي تمت في عهد الرسول في اتجاه الروم، فإن الرحلات الغربية استطاعت الوصول إلى عدد أكبر من المناطق في وقت وجيز.

ولذلك لم يكن غريبا أن تطأ خطى الرحالة كل الجغرافيات التي يمكن أن تحمل مداخل للتعرف على هذا العالم، بما فيها المدن والبوادي والمواقع التاريخية والمناطق الصحراوية البعيدة، بما فيها الربع الخالي، المعروف بجفافه الشديد. وكان قد عبره الرحالة البريطاني بيرترام توماس، المعروف بكتابه الشهير “أرايبا فليكس” (بلاد العرب السعيدة)، الذي يدون فيه للصحراء ولثقافتها.

وكانت بلاد العرب السعيدة، كناية عن الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة العربية، محطة لعدد هام من الرحلات. ولعل من أهمها رحلة الإيطالي لودفيكو دي فارتيما، التي تعود إلى بدايات القرن السادس عشر، ورحلة  الفرنسي جون بليرن، التي تمت في نهاية القرن السابق، وشملت المنطقة السابقة ووصلت إلى فلسطين ومصر. وذلك بالإضافة إلى رحلة غابرييل بريمون، التي تعود إلى أواسط القرن السابع عشر، وإن كان نص الرحلة سيظل منسيا ليرى النور في سبعينات القرن الماضي.

والأكيد أن الرحلات الغربية لن تكتفي بالمنطقة. إذ ستصل خطى الرحالة إلى أقصى العالم العربي، وبالضبط إلى المغرب، حيث يعود أول نص فرنسي يدون لرحلة إلى المغرب، حسب الباحث رولان لوبيل، إلى بدايات القرن السادس عشر. وهو نص “رحلات إلى أفريقيا، آسيا، ومناطق الهند الشرقية والغربية” للفرنسي جان موكي، الذي زار المغرب مرتين. الأولى في إطار رحلة على متن باخرة برتغالية موجهة لتموين مستعمرة مازاغان، قبل أن  يكرس رحلته الثانية للوصول إلى مناطق أخرى.

وسيغري المغرب، لأكثر من سبب، عددا كبيرا من الرحالة،  الذين وقّعوا عددا كبيرا من نصوص الرحلات والتي تشكل مصدرا أساسيا لصورة المغرب لدى الآخر.

وفوق ذلك، لن تظل الرحلات محصورة على الرجال فقط. إذ سيكون  المغرب موئلا لرحلات عابرة لعدد من الرّحالات القادمات من جغرافيا مختلفة. ومن بينهن، حسب الباحثة لطيفة بنجلون العروي في كتابها “الرّحالات الغربيات إلى المغرب”، الكاتبة البريطانية أميليا بيريير، صاحبة كتاب “شتاء في المغرب”، ومواطنتها الكاتبة إيزابيل سافوري، التي كانت مراسلة لجريدة نيويورك تايمز، والتي دونت رحتلها إلى المغرب من خلال نصها “رحلة ومغامرات امرأة بريطانية بالمغرب”. وكانت إيزابيل سافوري قد قضت ستة أشهر بالبلد، مفضلة قطع المساحات الطويلة فوق حمار!

 الرحالة البريطاني بيرترام توماس دوّن الثقافة الصحراوية في كتابه "أرايبا فليكس"
 الرحالة البريطاني بيرترام توماس دوّن الثقافة الصحراوية في كتابه "أرايبا فليكس"

في زحمة توالي صفوف الرحالة، ومنهم الأطباء والرهبان والمخبرون والدبلوماسيون والمستكشفون والأدباء والفنانون والضباط ورجال الأعمال والصحافيون وغيرهم، يبدو طبيعيا أن تختل الصورة التي يقدهما هؤلاء عن موئل رحلاتهم. وفي كثير من الأحيان، يبدو الشرق في نصوص الرحالة والمستشرقين كما لو أنه فصل من “ألف وليلة” أو كعلبة عجائب. وقد يفسر ذلك ما ذهب إليه خبير كبير عارف بخبايا الاستشراق الغربي، وهو إدوارد سعيد، حين أقر بأنه لا يوجد ما قد يسمى استشراقا موضوعيا أو إيجابيا، باعتبار أن كل ما يُفعل وكل ما يقال عن أنه موضوعي له ارتباط بالمصلحة فقط.

بالطبع، لا ينفي ذلك الصورة المشرقة التي قدمها بعض الرحالة والمستشرقين عن العالم العربي أو الإسلامي.

ويمكن في هذا السياق، استحضار حالة كارل بروكلمان، الذي كرس حياته للبحث في حفريات الثقافة العربية ليمنحها الشيء الكثير الذي قد يضاهي ما منحه إياها أبناؤها. ولم يكن الرجل مستشرقا فقط، وعابرا لثقافتنا، بل جعل من هذه الثقافة مرآته التي يتمعن فيها انعكاسات سيرته الحافلة بالاكتشافات وبالمغامرة وبالمثابرة، التي تجعل منه مقيما دائما داخل بيت هذه الثقافة الفسيح.

وكان بروكلمان يملك قدرة مذهلة على العمل، وعلى البحث في أكثر من مجال، سواء في الثقافة العربية والإسلامية، أو في الساميات، أو في اللغة التركية، أو في غيرها. واستطاع أن يخلّف عددا ضخما من الأعمال، من بينها، على سبيل المثال، “تاريخ الشعوب الإسلامية”. ولعل أكثر كتب بروكلمان حظا هو “تاريخ الأدب العربي”، الذي لا يمكن لأي دارس لتاريخ تراثنا الأدبي أن يستغني عن قراءته، ولا تكاد تخلو أي مكتبة تهتم بالثقافة العربية من نسخة منه.

لم يشفع كل هذا الجهد لبروكلمان بعض أخطائه، التي يبدو كثير منها طبيعيا، اعتبارا لظروف البحث خلال المرحلة، خصوصا بالنسبة إلى باحث بعيد عن أرصدة المخطوطات العربية. فخصّه عبدالله الحبشي بكتاب سماه “تصحيح أخطاء بروكلمان في تاريخ الأدب العربي”، كما كرس غيثان علي جريس مؤلفا في تصيد “افتراءاته” على السيرة النبوية.

يبقى أن تقديم صورة عادلة عن الثقافة العربية لدى الآخر هو مسؤولية العرب أساسا. ويبدو أننا ندمن على الحوار بيننا دون أن نذهب إلى الآخر. وقد نعجز عن احتساب عدد الندوات واللقاءات التي تُنظم داخل بلدان العالم العربي، حول قضايا الإرهاب والتطرف، كأننا نحاول أن نقنع أنفسنا بعدالة قضايانا، في حين ننسى المواطن الأجنبي الذي تلتهمه، خلال كل ساعات اليوم، آلات الإعلام الكبرى، وننسى المستشرق، الذي أمضى حياته في تعلم لغة يحقد عليها كثير من أهلها.

15