إنعام سالوسة ممثلة مصرية قديرة لم تطأ قدماها منصات التكريم

شخصية المرأة الريفية تؤديها سالوسة كما لو كانت قد ولدت ونشأت وعاشت طوال حياتها في ضاحية ريفية، تظهر مجيدة لكل تفاصيلها وعاداتها وتقاليدها ونمط حياتها.
السبت 2020/12/19
إنعام سالوسة صاحبة المئة وجه

اختتم مهرجان القاهرة السينمائي أعماله قبل أيام، وكالعادة، لم يتم تكريم الفنانة المصرية القديرة إنعام سالوسة، وهي الحقيقة التي كشفها نقاد أبدوا انزعاجهم من تجاهل موهبة وهبت حياتها للفن عبر مسيرة امتدت لأكثر من ستين عاما، لكن يكفي أن الجمهور اعتاد أن يحتفي بها على طريقته مع كل مهرجان سينمائي.

تبدو سالوسة حالة فنية فريدة من نوعها، إذ من النادر أن ينشغل الجمهور بفنانة مثلها، ويبحث عنها وسط نجوم الشباك الذين يقبعون في الصفوف الأولى والثانية، وعندما لا يجدها ضمن المكرمين يتولى مهمة منحها تكريما من نوع خاص، بكلمات مؤثرة قد تتجاوز معانيها ما كانت ستسمعه إذا تواجدت وسط كوكبة النجوم في المهرجانات.

رغم كونها لم تحصل على البطولة طوال مسيرتها الفنية، لكنها في نظر الكثير راهبة في محراب الفن، قد تشارك في أي عمل لدقائق معدودة، لكن يصعب أن تختفي عن باقي الحلقات دون أن تترك بصمة يتذكرها بها الناس، فهناك أدوار بسيطة يبدو كأنها تم تفصيلها على مقاس وشخصية وموهبة سالوسة.

سند النجوم الكبار

سالوسة تبدو حالة فنية فريدة من نوعها، إذ من النادر أن ينشغل الجمهور بفنانة مثلها ويبحث عنها وسط نجوم الشباك، وعندما لا يجدها ضمن المكرمين يتولى مهمة منحها تكريما من نوع خاص.
سالوسة تبدو حالة فنية فريدة من نوعها، إذ من النادر أن ينشغل الجمهور بفنانة مثلها ويبحث عنها وسط نجوم الشباك، وعندما لا يجدها ضمن المكرمين يتولى مهمة منحها تكريما من نوع خاص.

ما يميز سالوسة التي تجاوزت الثمانين عاما، أنها لم تتأثر بعدم تكريمها، أو بمعنى أدق تجاهل ما قدمته للفن المصري في مسيرة يصعب تكرارها، كأنها تريد توصيل رسالة للجمهور وشباب المهنة من زملائها، بأن الاجتهاد والمثابرة حتى النفس الأخير وإتقان العمل على الوجه الأكمل، هما التكريم الحقيقي للإنسان، قبل أن يمنّ عليه الآخرون بالاعتراف بقيمته.

بعض نجوم الصف الأول يتحدثون عن شعورهم بالطمأنينة لمجرد معرفتهم بأنها تشاركهم في عمل ما، بينهم من يعتبرها السند الحقيقي له، فهي لا تمانع في تقديم النصيحة والإرشاد لكل من يعمل معها حتى لو كان بطلا وصاحب شعبية، ولا تكف عن توجيهه إلى الأفضل كي يحصل على رضا الجمهور ويجعله مقتنعا بالدور، لأنها تقدس الفن ولا تمارسه فقط.

إذا كانت قد اكتسبت من الخبرات ما يكفي لأن تصبح متمكنة من أداء أي دور يعرض عليها، فما يميزها بالنسبة للمنتجين والمخرجين أنها متواضعة إلى أقصى درجة، فلا تمارس التعالي أو التكبّر على مخرج شاب يحاول توجيهها في أثناء العمل الفني، بل تستجيب كأنها ما زالت في بداية مشوارها وتبحث عن الانطلاقة وإرضاء الناس، باعتبارها وهبت حياتها للفن كمتنفس للحياة.

تكاد تكون المرة الوحيدة التي وقفت فيها على منصة التكريم، يوم الاحتفال باليوم العالمي للمرأة في مارس الماضي، عندما وجهت إليها قرينة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي دعوة لحضور الاحتفالية بغرض التكريم، وفور صعودها المنصة، ضجت القاعة بالتصفيق الحار، في موقف مؤثر انعكس على ملامح وجه الفنانة القديرة التي لم تنل حظها من التكريم.

فنانة تبكي جمهورها

أجادت تقمص أدوار المرأة المصرية كافة، وظهرت بمئة وجه سينمائي ودرامي ومسرحي، وتنوعت بين الأم والجدة والأخت والزوجة والموظفة ورئيسة العمل والخادمة والفقيرة والأرستقراطية والشعبية والريفية والصعيدية والعشوائية، وفي كل مرة تؤدي العمل بطريقة احترافية كأنها خلقت من أجل هذا الدور.

صحيح أن الكثير من الفنانات يتلونّ في أدوارهن ويقدمن قوالب فنية مختلفة، لكن سالوسة عندما تتقمص شخصية امرأة ريفية تؤديها كما لو كانت ولدت وتربت ونشأت وعاشت طوال حياتها في ضاحية ريفية وتجيد معرفة كل تفاصيلها ودهاليزها وعاداتها وتقاليدها ونمط حياتها، وليست بحاجة لمن يعلمها ويدربها على أداء الدور.

سالوسة تمارس الفن كهواية أكثر من كونه احترافا، وتتحدى كل شيء. ليس مهمّا حجم الدور ولا مساحته، بل مضمونه وطريقة الأداء، ولا ترفض عملا يُعرض عليها مهما كان صغيرا، ما يهمها أنها ستخرج ما بداخلها من طاقات فنية

تعيش الدور المكلفة به قبل الوقوف أمام الكاميرات وتدرس الشخصية بعناية شديدة لتبدو طبيعية وتلقائية إلى أقصى درجة، فلو كان المشهد يستلزم أن تبكي بحرقة وتبدو حزينة ومنكسرة، تؤديه بطريقة قد تدفع الجمهور إلى البكاء معها، لصدق إحساسها في تمثيله. هكذا استطاعت أن تكون استثنائية في أغلب أدوارها طوال مشوارها.

لا ينسى لها الجمهور الطريقة التي أبكت بها مشاهدي مسلسل “الفتوة” الذي عرض في شهر رمضان الماضي، عندما علمت بنبأ وفاة ابنها في العمل “حسن الجبالي”، وفارقت الحياة، لكنها عندما أدت الدور وهي تموت، مثّلته بطريقة أججت مشاعر الحزن بين الجمهور في دقيقة واحدة، لأنها أتقنت أداء لحظة وفاتها ببراعة جعلت بعض النقاد يختارون المشهد لتدريسه في معهد الفنون.

قد يعتقد البعض، أن خبرات إنعام سالوسة اكتسبتها من مشوارها الفني الطويل، لكنها في الحقيقة ولدت لتكون فنانة قديرة ومعلمة أجيال، يكفي أن الفنانة الراحلة سعاد حسني تعلمت على يديها في بداية حياتها فن الإلقاء، ودربتها على كيفية نطق الكلمات بطريقة صحيحة، وأداء أدوارها بشكل طبيعي لتكسب ثقة الناس في تمثيلها وتترك بصمة في كل أعمالها.

لم يكن ذلك بسبب علاقة الصداقة التي جمعت ما بين الفنانتين في بداية مشوارهما الفني وامتدت حتى وفاة الأخيرة، بل لأن الأولى عرفت في الوسط الفني منذ ظهورها بأنها متمكنة في الإلقاء، وتجيد الإقناع ببراعة ولا تجيد التصنّع، وانشغلت في بداية مشوارها بدعم القدرات الفنية للأجيال التي عاصرتها، ولم تبخل بإمكانياتها على أحد، والتي كان يتحدث عنها كل من عرفها.

شغف بلا حدود

سالوسة تبدو حالة فنية فريدة من نوعها، إذ من النادر أن ينشغل الجمهور بفنانة مثلها ويبحث عنها وسط نجوم الشباك، وعندما لا يجدها ضمن المكرمين يتولى مهمة منحها تكريما من نوع خاص.
سالوسة تبدو حالة فنية فريدة من نوعها، إذ من النادر أن ينشغل الجمهور بفنانة مثلها ويبحث عنها وسط نجوم الشباك، وعندما لا يجدها ضمن المكرمين يتولى مهمة منحها تكريما من نوع خاص.

استفادت سالوسة من دراستها في كلية الآداب، قسم اللغة العربية، ولأنها كانت شغوفة بالتمثيل منذ الصغر، ولديها حلم تتمسك بتحقيقه وجدت في الالتحاق بمسرح الجامعة بداية لوضع قدميها على الطريق الصحيح، وعندما حصلت على المراكز الأولى قررت التقديم لمعهد الفنون المسرحية.

لم تستغرق وقتا طويلا لإظهار موهبتها الفنية، إذ فور تخرجها في المعهد التحقت بفرقة للتمثيل، وتحمس لموهبتها الكثير من نجوم الفن آنذاك، على رأسهم المخرج نور الدمرداش الذي رشحها للمشاركة في مسلسل “لا تطفئ الشموع”، حيث كان باكورة أعمالها، وخلاله استطاعت أن تترك بصمة واضحة عند الجمهور.

بعدها انهالت عليها العروض، على مستوى السينما والدراما والمسرح، ونجحت في أن تعبر عن نفسها كممثلة فريدة من نوعها، يمكن أن تعطي للعمل قيمة وثقلا وجماهيرية ولو بأدوار هامشية، لكن لا غنى عنها بالنسبة للجمهور، وما ساعدها في الماضي، أن الناس كانت تميل للفنان الذي يمثل بتلقائية وواقعية وعفوية ولا يركز على الثرثرة من أجل الشهرة السريعة.

أكثر معضلة واجهت سالوسة في بدايات حياتها، أن مجال التمثيل في الستينات كان يتطلب مواصفات خاصة للفنانة، مثل الجمال الطاغي والرشاقة والأنوثة المتوهجة، في حين أن قوامها كان عاديا، لكن استطاعت القفز على كل هذه القيود وفرضت نفسها من خلال رصيدها الوحيد، بأنها إنسانة موهوبة بالفطرة.

الفنانة الراحلة سعاد حسني تعدّ واحدة من الذين تعلموا فن الإلقاء على يدي سالوسة في بداية حياتهم الفنية، حينها دربتها على كيفية نطق الكلمات بطريقة صحيحة، وأداء أدوارها بشكل طبيعي

رغم زواجها من المخرج سمير العصفوري صاحب البصمة الفنية الواضحة في المسرح بمصر، غير أنها لم تعوّل عليه لتكون نجمة شباك، أو بطلة في الصفوف الأولى، بل كانت مشاركاتهما معا في نطاق ضيق، وتمسكت بالاعتماد على نفسها وتطوير أدواتها، باعتبارها صاحبة موهبة لا تحتاج الدعم والمساندة إلا من الجمهور.

طوال مشوارها الذي تجاوز 350 عملا، ظلت سالوسة كما هي لم تتغير أو تتبدل، إنسانة بسيطة هادئة قنوعة مجتهدة في صمت، عندما تؤدي دور الأم تُشعر من يشاهد الدور الذي تؤديه أن أمه هي التي تمثل، ولم يعرف عنها تقديم مشاهد مبتذلة، بل مارست الفن الذي يقبله كل بيت شرقي.

وهي من القلائل في الوسط الفني عموما، الذين تجاهلوا اكتساب الشهرة على حساب الفن، فهي تمثل من أجل أن تشبع رغباتها بحب الفن فقط، لذلك يصعب أن تجد لها حوارا صحافيا أو تلفزيونيا، ورغم محاولات الكثير من الإعلاميين لاستضافتها، لكن في كل مرة ترفض بشدة، وترد بأنها تكرس حياتها لخدمة التمثيل ومخاطبة الجمهور بالفن وكفى.

جدية والتزام

Thumbnail

كان بإمكان سالوسة أن تكون نجمة شباك، أو على الأقل تفرض نفسها على الساحة لتحظى بالمزيد من الشهرة من خلال افتعال أزمات مع زملاء المهنة، كما يفعل البعض، ولم تدخل يوما في معركة كلامية مع فنان أو فنانة، فرصيدها من السجال الكلامي يكاد يكون خاويا، فهي كما يقولون عنها، من البيت للتصوير أو العكس.

اعتادت أن تترك التقييم للجمهور، ولا تعترف بكلام النقاد عنها، ولا تتأثر بما يسوقه الإعلام حولها، باعتبار المشاهد هو القاضي الذي يصدر حكمه على الفنان بشكل موضوعي وصادق، ويصعب أن تكتشف ما تخفيه شخصيتها سوى من كلام زملائها في المهنة عنها، بحكم الاحتكاك بينهم في دهاليز التصوير والبروفات خلف الكاميرات.

الشيء الوحيد الذي أجمع عليه من تعاملوا معها، أنها لا تتحدث عن أي شيء خارج العمل الفني، وجادة إلى أقصى درجة، وملتزمة بكل ما يُملى عليها، وتنفذ المطلوب منها في صمت دون نقاش، وتركز في كل دور على أن تترك علامة فارقة عند الجمهور، رغم أنها ليست من هواة خطف الأضواء، وتشارك في العمل كأنها في بداية المشوار وتريد إثبات الذات قبل الانطلاق.

صحيح أن التزام الفنان بالنص المكتوب وطريقة أداء الدور قد يجعلان منه نجما استثنائيا، لكن في حالة إنعام سالوسة الوضع مختلف، فهناك عبارات تنطقها في دور هامشي وغير مؤثر، وتؤديه بطريقة تجعله يخطف الأضواء مهما كانت مدته، فهي تستطيع التحوّل من التراجيديا إلى الكوميديا بسلاسة وخفة وعمق بما يعكس حجم النضج الفني الكامن في شخصيتها.

رغم تقدمها في السن، لكنها لا تعيش على نجومية الماضي، ولا تحتمي في الميراث الذي تركته لسنوات، ولا رصيدها عند الجمهور، واستطاعت أن تتلون بشكل عصري مع متطلبات الفن الحديث، فتراها تطور من الأداء لتخاطب الأجيال الجديدة بطريقة أقرب إلى تطلعاتهم وعقلياتهم، حتى لا تضع نفسها في خانة الفنان الكبير الذي يستهدف أرباب الأسر، وصارت علامة مميزة في أفلام جيل المضحكين الجدد.

الفنانة الراحلة سعاد حسني تعدّ واحدة من الذين تعلموا فن الإلقاء على يدي سالوسة في بداية حياتهم الفنية، حينها دربتها على كيفية نطق الكلمات بطريقة صحيحة، وأداء أدوارها بشكل طبيعي

وخاضت تجربة جريئة في بدايات مشوارها ببطولة أحد أهم المسلسلات العرائسية للأطفال في مصر “بوجي وطمطم”، رغم أن المشاركة في عمل يخاطب الأطفال مجازفة، لأنه يجعل الممثل نجما وقدوة طوال حياته ويظل يتردد اسمه بين الصغار عندما يكبرون، أو ينتهي مشواره مبكرا، بحكم أن هذه الشريحة من الصعب تلبية رغباتها بسهولة.

إذا كان من الصعب على فنانة مثلها أن تؤدي دورا كوميديا، فهي قامت بذلك ببراعة، حيث تضحك الجمهور حتى لو كانت جادة في المشهد بعكس بعض ممثلي الجيل الصاعد الذين يقدمون الضحك في صورة تهريج، ورغم أنها ليس “كوميديانة” بالمعنى الحرفي لكنّ جزءا من النكات التي أطلقتها محفورة وتتردد إلى اليوم.

تمارس سالوسة الفن كهواية أكثر من كونه احترافا، وتتمرد على وتتحدى كل شيء، حتى تظهر للجمهور على هيئة نجمة، ليس مهما حجم الدور ولا مساحته، بل مضمونه وطريقة الأداء، ولا ترفض عملا يُعرض عليها مهما كان صغيرا، المهم أنها سوف تخرج ما بداخلها من طاقات فنية، والأهم أنه يصعب وربما يستحيل عليها تكرار نفس الشخصية التي سبق وأدّتها في أي عمل.

قد تجدها امرأة صعيدية في أكثر من مسلسل، لكن بشكل مختلف كليّا عن المرة السابقة، فهي بطبيعتها متمردة على النمطية، وتقدم نفسها للمخرج والمنتج على هيئة فنان من قطعة صلصال، يشكلها كيفما يشاء، بما يتناسب مع الدور، كوميدية، تراجيدية، شرسة، هادئة، كئيبة، مرحة، المهم أنها في كلّ الحالات سوف تعيش الدور وتؤديه كما قال الكتاب.

12