إسقاط وصاية الآباء على الأبناء عند الزواج: نعمة أم نقمة؟

يؤكد الاستشاريون في العلاقات الأسرية أن إجبار الأسر لأبنائها على الزواج من شريك بعينه قد يكون دافعا للخيانة بحثا عن العاطفة المفقودة، مشيرين إلى ضرورة أن تتوفر للشباب والفتيات الحرية في قرار الزواج، داعين الأسر إلى ضرورة الوعي بذلك. وقد أباحت المؤسسة الدينية في مصر للفتاة أن تزوّج نفسها وتختار شريك حياتها في خطوة لرفع وصاية الآباء عن الأبناء. ولا يمكن التعويل على الخطاب الديني وحده في المعالجة، فالأمر يتطلب شمولية المواجهة.
القاهرة - تغيرت نظرة المؤسسة الدينية في مصر للزواج نسبيا وأباحت للفتاة أن تزوج نفسها وتختار شريك حياتها طالما وصلت سن البلوغ، وشرّعت للشاب أن يتزوج من الفتاة التي يرغب فيها مهما اعترضت أسرته ولا يعد ذلك عقوقا للوالدين، ما يمهد لإسقاط الوصاية الأبوية على الأبناء وإجبارهم على الزواج من أشخاص بعينهم.
أحدثت الفتوى جدلا أسريا باعتبار أن الإباحة المطلقة للفتاة في أن تتزوج ممن ترغب، بغض النظر عن موافقة والديها من عدمه، قد تفهم على أنها دعوة غير مباشرة لتحرر الفتيات بشكل يدفعهن إلى اللجوء إلى الزواج العرفي كنوع من الضغط على الأسرة للقبول بالأمر الواقع والموافقة على الشاب الذي تزوجت منه الابنة بمفردها.
ودلل البعض على ذلك بأن هناك فتيات يقدمن على الزواج سرا من شباب تربطهن بهم قصص عاطفية، آخرهن الفتاة التي وجهت سؤالا لدار الإفتاء قبل أيام اعترفت فيه بزواجها عرفيا من حبيبها لإجبار والدها على قبوله، وهو ما ردت عليه الدار بأنه لا دخل للآباء في اختيارات الأبناء بعيدا عن الانزلاق في زيجة سرية.
وإذا كانت نظرة المؤسسة الدينية صارت أكثر تحررا في تعاملها مع مسائل الزواج، فذلك لا يعني قبول المجتمع الشرقي الذي يقدس العادات والتقاليد والأعراف لمثل هذه المتغيرات الجذرية، ويمنح الأبناء الحرية الكاملة في اختيار شركاء حياتهم، لأن ذلك يقود إلى أزمات عائلية كثيرة لانتشار ثقافة زواج الأقارب.
ويرى البعض أن إسقاط الوصاية الدينية للآباء على الأبناء في الزواج صار ضرورة بعدما تسببت تدخلات الأسرة في هدم كيانات عائلية تأسست على الإكراه، ولا يمكن ربط التحرر في اختيار شريك الحياة بنشر ثقافة الزواج العرفي لأن ذلك محاولة لترهيب الداعين إلى استقلال الشباب والفتيات.
ويبني هؤلاء رؤيتهم على أن الشريحة التي تميل إلى الزواج العرفي لا يعنيها رأي الدين مهما كان يقف في صفها، بل إنها متمردة على كل ما يرتبط بالتدخل في حياتها ويرسم لها طريقها نحو الزواج، سواء أكانت أسرة أو مؤسسة دينية، وغالبا ما يكون هؤلاء مستقلين في حياتهم عن المؤثرات المجتمعية الأخرى.
رحاب العوضي: تبعات التدخل في اختيارات الأبناء بشأن الزواج خطرة
ويعتقد متخصصون في العلاقات الأسرية أن القيمة الهامة في إسقاط المؤسسة الدينية وصاية الآباء على أولادهم في تحديد شريك الحياة المستقبلي يكمن في أن تدخل الأهل في هذه المسألة يقوم غالبا فكرة “المسؤولية الدينية” للآباء، بحكم أن الميراث الفقهي يقول “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.
وسبق لأحمد الطيب شيخ الأزهر أن أفتى بأن إجبار الفتاة على الزواج مسألة لا أخلاقية، لأنه حكم يشبه الإعدام على حياة كاملة لفتاة، فما أقسى أن تضطر إلى أن تعيش مع من لا ترغب فيه، فهذا نوع من العذاب المجرم شرعا وخلقا وحضارة، مؤكدا أن هيئة كبار العلماء بالأزهر سوف تتبنى تعديلات تشريعية لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة.
ويستخدم بعض الآباء لغة الدين لترهيب الشاب أو الفتاة إذا قرر أحدهما أو كلاهما معصية الأسرة في الزواج من شخص بعينه، باعتبار أن الأب الأكثر قدرة على اختيار الشريك المناسب وفق معاييره الشخصية، ويرتبط ذلك بمستوى اجتماعي ومادي لائق دون اكتراث بالتوافق الفكري والنفسي بين الطرفين.
وصارت هذه المشكلة ظاهرة أسرية يعاني منها كثيرون في مصر لأن بعض الأسر تميل إلى زواج الأقارب وعدم استطلاع رأي الفتاة في المتقدم لخطبتها أو الاتفاق على موعد الخطبة والزواج بعكس إرادتها، وإذا سئل أي من أرباب الأسر يبرر موقفه بأن الدين دعاه لاختيار الأصلح لأولاده.
وطالما أنه يتم فرض الوصاية الأبوية باسم الدين، فتدخل جهات الفتوى للطعن في هذا الفكر يمثل أهمية بالغة ليكون كل شاب وفتاة حرا في رسم حياته الأسرية مستقبلا، ولأن التدين محرك أساسي لتصرفات العديد من الآباء مع الأبناء من الضروري رفع الحماية الدينية عن تصرفات أرباب الأسر ليدركوا أنهم على خطأ، والدين بريء من ذلك.
وقالت رحاب العوضي الباحثة المتخصصة في العلاقات الأسرية وتقويم السلوك بالقاهرة إن ضرب المعتقد الديني عند الأسر بخصوص اختيار شركاء الحياة لأولادهم مطلوب، لكن الأمر يتطلب إبراز مخاطر الزواج بالإكراه، للشاب أو للفتاة، فالحياة الزوجية السوية أساسها السلام النفسي والسلوكي والتوافق والتفاهم والمشاعر المتبادلة، لا عقد الزواج فقط.
بعض الآباء يعتمدون الدين لترهيب الشاب أو الفتاة إذا قرر أحدهما أو كلاهما مخالفة رأي الأسرة في الزواج من شخص بعينه
وأضافت لـ”العرب” أن تبعات التدخل في اختيارات الأبناء بشأن الزواج خطيرة، وهو ما يجب أن تفهمه الأسرة وتدرك أن معايير اختياراتها مختلفة عن طموحات ورغبات أولادها في شريك الحياة، فالأجيال الجديدة لها سمات خاصة، هناك من يهتم بالمال وهناك من يهتم بالعاطفة أو الراحة النفسية أو التوافق في الصفات الشخصية.
وحذرت دراسة سابقة صادرة عن محكمة الأسرة بالقاهرة من كثرة تدخلات الأهل في الزواج والإجبار على شريك بعينه، وقالت إن قرابة 52 في المئة من دعاوى الطلاق تكون بسبب الإكراه، ما يعني أن الوصاية التي يفرضها الآباء تقود إلى الطلاق المعلن، أو الصامت أي أن يعيش الشريكان مع بعضهما وهما منفصلان جسديا ونفسيا.
وتوحي دعاوى الطلاق التي يكون سببها الإكراه على الزواج من شريك بعينه بأن هذه النوعية من الزيجات مصيرها العلاقة الجافة بين الطرفين، ويصل فيها الطرفان إلى مرحلة يصعب معها الاستقرار النفسي والقبول بالأمر الواقع على أمل تغيير العلاقة من الجمود إلى الحب.
ويصعب أن تصل فتاوى المؤسسة الدينية إلى حد إقناع الفتاة التي تعيش في مجتمع ريفي أو بيئة شعبية أن تتزوج رغما عن أسرتها، لأن ذلك قد يقود إلى القطيعة معها ونبذها، لكن على الأقل تمهد لنسف الفكر السائد بأن التدخل في اختيار الشريك من جانب الآباء من الواجبات الدينية، وإذا لم يفعلوا ذلك سيكونون مقصرين.
ويرى مؤيدو الخطاب الديني المحرض للآباء للوصاية على الأبناء أن العبرة ليست في إصدار فتاوى من هذا النوع، بل بتوسيع نطاق نشرها في المناطق التي تكون فيها الأسرة صاحبة الكلمة الأولى في مسألة الزواج لا بثها عبر منصات التواصل الاجتماعي، لأن الفئة المستهدفة لن تتعرف عليها، وبالتالي لن تغير في قناعاتهم شيئا.
وأكدت العوضي أنه صار من المطلوب توعية الأسر بأن الإجبار على الزواج من شريك بعينه قد يكون دافعا للخيانة بحثا عن العاطفة المفقودة، والبديل أن تكون هناك حرية للشباب والفتيات في قرار الزواج، ولا يمكن التعويل على الخطاب الديني وحده في المعالجة، فالأمر يتطلب شمولية المواجهة.
ويمكن تنفيذ المواجهة عبر المساجد والكنائس ووسائل الإعلام والمناهج التعليمية والمنظمات الحقوقية، شريطة توافر الإرادة بعيدا عن اختزال حل المشكلة في فتوى دينية، مع التأكيد على أن التحرر في الزواج لا يعني الميل إلى الزيجات السرية لإقرار الأهل بالأمر الواقع، بل يكون الخطاب الموجه توعويا لكل الأطراف ويحدد الحقوق والمسؤوليات كمدخل لبناء كيان أسري متماسك.