إبراهيم سماحة يحوّل بيروت إلى ظاهرة بصرية متعدّدة الأزمنة

بيروت في لوحات الفنان التشكيلي اللبناني تتحدث عن كيف يمكن للفن المفاهيمي أن يتصف بكل صفات الفن التشكيلي الأساسية.
الأربعاء 2021/02/03
تداخل لوني وحركي يجسّد تحوّلات مدينة استثنائية

سكنت مدينة بيروت ذاكرة الرسام والنحات اللبناني إبراهيم سماحة وخياله منذ أن قيّض له أن يحمل ريشة ألوان أو قلم التخطيط بالحبر، أو وهو يحفر على ألواح من خشب، فرسمها في أكثر من سردية جمالية تجسّد بهاءها وكبرياءها، إلى أن كان انفجار المرفأ، ليحوّل الفنان متعدّد الوسائط بيروته التي يحب إلى ظاهرة بصرية تتشكّل في لوحات مفاهيمية.

بيروت – إثر انفجار مرفأ بيروت في صيف العام الماضي، أقام الفنان اللبناني متعدّد الوسائط إبراهيم سماحة معرضا فنيا حمل عنوان “هي”.

عنوان يجعل قارئه يتصوّر أنه سيكون أمام أعمال فنية تشخصن العاصمة اللبنانية، بيروت، كما جرت العادة عبر جعلها أنثى بشعر طويل أو قصير تتمايل هنا أو هناك كما تفعل النسوة في شعر نزار قباني الغزلي والمعسول. وأنه ستلي تلك المواجهة مع “أنثى شرق المتوسط” مواجهة أخرى مع بصريات تمجّد اكتشاف الفينيقيين للأبجدية أو تتغنّى بنجاة بيروت بعد غرقها سبع مرات تحت البحر وما إلى ذلك من إفرازات مُخيّل فني باهت وبالٍ. ولكن لا.. لا تنتمي أعمال الفنان ولحسن الحظ إلى هذا المزاج.

يعثر الناظر إلى لوحات سماحة المشغولة بمواد متعددة وبأحجام مختلفة على صفائح من خشب، على أجواء اختلطت فيها علوم الهندسة المدنية/ المنطقية بما ورائيات أفرزتها المدينة في روح الفنان.

ومعرض “هي” أتى تحية فنية من سماحة إلى مدينة بيروت التي عنت له الكثير منذ طفولته التي قضاها في منطقة الجميزة.. هناك أنشأ مشغله الفني على درج مار نقولا في قلب تلك المنطقة البيروتية العريقة بالعمارة والشوارع الضيقة والدكاكين الصغيرة وحضور الأشجار التي لم تقض عليها عجلات المُعاصرة.

ويقول الفنان الذي يفكّر في تمديد المعرض إن ريع مبيعات لوحاته سيعود كله إلى ضحايا الانفجار، مضيفا أن تلك المساعدة جاءت بالتعاون مع جمعية “وي هيلب”، أي “نحن نساعد”، التي أسّستها وتشرف عليها اللبنانية ندى أبوفرحات.

وهي التي كتبت مؤخرا على صفحتها الفيسبوكية “مازلنا مستمرين في تقديم المساعدات العينية.. ونحاول توسيع حلقة المساعدات التي مازال المتضرّرون في أشدّ الحاجة إليها”.

ويخبرنا سماحة بأن رفع آثار الدمار من الشوارع وقيام أهل المنطقة وغيرهم من مختلف مناطق لبنان بحملات التنظيف اليومية وطّدا أواصر العلاقة بين أفراد المجتمع اللبناني، وبأن مشاركته في حملة رفع الدمار تركت في نفسه صدى عميقا أساسه الإحساس بالمسؤولية والانتماء إلى المدينة المنكوبة، لاسيما في غياب الدولة التي تخلت عن دورها في القيام بعمليات إزالة مخلفات الانفجار.

كما أخبرنا بأن محترفه الفني الكائن على درج الجميزة دُمّر بشكل شبه كلي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى لوحاته التي لم تنج منها إلا بضعة أعمال هي، وللمفارقة، عن مدينة بيروت.

بيروت.. لون واحد وإن تغيّرت الأزمنة
بيروت.. لون واحد وإن تغيّرت الأزمنة

ومن تلك الأعمال الفنية المُتبقية انطلق سماحة لينظم معرضا فنيا عنونه بـ”هي”، مضيفا إليه عددا من اللوحات الجديدة التي أنجزها من وحي انفجار بيروت.

كما أضاف إلى جملة هذه الأعمال عددا من لوحات معرضه الأسبق المُعنون بـ”تخفّي”، وهو المعرض الذي ولد منه أسلوبه الفني المبنيّ بشكل أساسي على منطق تعدّد المستويات المتراكمة بعضها فوق بعض مع الحفاظ على الشفافية، ودون إحداث اختناق في أرجاء اللوحات لصالح مضمون الأعمال أكثر منه لصالح الأسلوب الفني المُتبع.

وحتما ليس المقصود بتلك “المستويات” الطبقات اللونية أو المواد الأخرى التي يستخدمها سماحة في مواضع كثيرة من لوحاته، بل المقصود منها ذلك البعد الفلسفي والنفسي للأعمال الذي أسّس له تلازم الطبقات اللونية والمواد الأخرى التي يستخدمها الفنان اللبناني كرقائق الذهب وقصاصات الورق وتتابعها الواحدة فوق الأخرى، وأيضا تسرّبها في مواضع محددة إلى خلفيات غير مرئية تماما في عمق اللوحة.

أما الزمن فهو مادة أساسية في أعمال سماحة كرّسها ولا يزال يكرّسها عبر إدخاله عنصر الضوء وخاصية “الترحال” والتبدّل على هوى مرور الأيام وتعدّد الفصول.

وفي لوحاته جميعها، أو على الأقل في معظمها، ظهرت بيروت مدينة للتحوّلات حتى باتت هذه التحوّلات جزءا من صيرورتها. مدينة جعل
الفنان نوافذها الدقيقة والرقيقة والمُتداخلة كأنها منافذ ومداخل ومخارج لروحها. مدينة لوحها ضوء النهار، وكأنه شبح من أشباح الأيام الماضية ارتدى ذهب الرجاء.

وفي لوحات أخرى جعلها مدينة غرقت في عتمة الليل، فانساب بنفسجه أنفاسا متهدّجة تسلّقت أعمدتها كالبخور هياكل مبانيها الجديدة والأثرية على
حد السواء.

“هي” بيروت في لوحات الفنان إبراهيم سماحة تتحدّث عن كيف يمكن للفن المفاهيمي أن يتصف بصفات الفن التشكيلي الأساسية.

ويعرف عن الفنان إبراهيم سماحة أنه أسّس بعد عودته إلى لبنان سنة 2008، مخابر الفنون، وهي مساحة مخصّصة لترويج وتشجيع الفن، لاسيما الفن التجريبي. كما أسّس أول مهرجان سينمائي دولي أطلق عليه اسم “كابريواليه فيلم فستيفال” وعقدت فصوله سنويا في مكان مفتوح.

وهو إلى ذلك مستشار في وزارة الثقافة اللبنانية وملحق ثقافي ومحاضر في الجامعة الأنطونية، إضافة إلى كونه المستشار الثقافي والفني في لجنة جبران الوطنية ومتحف جبران، وله العديد من المعارض الفردية والجماعية في لبنان وخارجه.

16