أمهات يخترن الجدات لتربية أطفالهن

ارتفاع كلفة الرعاية وتردي خدمات المحاضن يدفعان الأزواج إلى السكن بجوار العائلة.
الثلاثاء 2020/11/10
حنو الجدة على أحفادها يعزز أحقيتها في تربيتهم

يؤكد علماء الاجتماع أن الجدات جديرات بالثقة أكثر من دور الحضانة أو الخادمات في تربية الأطفال لأنهن قادرات على إكسابهم المقومات الأساسية للهوية الاجتماعية. كما يفضل علماء النفس ذلك من منطلق أن الرعاية التي تحيط بها الجدة أحفادها تكون ذخيرة لهم لمواجهة مصاعب الحياة مستقبلا.

عرفت الأسرة التونسية خلال العشرية الأخيرة تحولات هامة أثرت على العلاقات بين أفرادها. فبعد أن كان الأزواج أكثر ميلا للحرية والاستقلالية باختيار العيش بعيدا عن بيوت آبائهم ليستقلوا بذاتهم، أصبحوا يفضلون العيش إلى جانبهم لإعانتهم على تربية أبنائهم بعد أن دفعتهم الظروف المادية إلى ذلك.

كما أن الأمهات اللواتي كن، في سابق الأعوام، يرفضن فكرة أن تربي الجدات أبناءهن بحجة اختلاف الزمن والتطور وتغير العادات واختلاف المفاهيم، أصبحن يلتجئن إليهن هربا من غلاء أسعار الحضانات وتردي خدماتها ولتوفير أكثر أمان لأطفالهن، ما جعل مفهوم العائلة الموسعة يعود إلى البروز من جديد فتصبح علاقة الكنّة بحماتها أكثر نفعية وأقل ميلا للمشاحنات، وتفضل العديد من الفتيات ألّا يبتعدن عن أهاليهن بعد الزواج ويخترن السكن إلى جوارهن.

أكدت سماح المولهي، البالغة من العمر 45 عاما، والأم لثلاثة أولاد، أن سكنها بجوار العائلة كان بالنسبة إليها بمثابة الحل السحري الذي أعانها على تجاوز الصعوبات والعراقيل وجعلها تمارس مهنتها الشاقة وهي مرتاحة البال.

وقالت سماح لـ”العرب”، “لولا أمي لما استطعت تربية أبنائي، فهي سندي ومتكئي. هي من اهتمت بابني الأكبر منذ ولادته حتى كبر، وهي أيضا من نقلتني أنا وزوجي للعيش معها إلى أن أصبح ابني قادرا على المشي لوحده، وها هي الآن تفعل نفس الشيء مع ابني الثالث”.

وتضيف، أنها بحكم عملها تقطن في حي راق ولا تقدر على دفع أجرة البيت ومعلوم خدمات الحضانة في ذات الوقت، مشيرة إلى ارتفاع كلفة تربية الأطفال إلى الضعف مقارنة بالسنوات الفارطة.

بدورها أوضحت لبنى الحامي عدم ثقتها في الحضانات التي يفتقد أغلبها إلى المهنية في رعاية الأطفال حسب اعتقادها.

الأمهات اللواتي كن يرفضن فكرة أن تربي الجدات أبناءهن بحجة تغير العادات، أصبحن يلتجئن إليهن هربا من غلاء أسعار الحضانات

وقالت الحامي لـ”العرب”، “عزز تكرار الحوادث التي تشهدها رياض الأطفال والتي تصل حد الموت في بعض الأحيان من موقفي الرافض لترك ابني هناك والاستعانة بحماتي التي لا تبعد عني سوى أمتار”.

وأضافت أنها تغض الطرف عن بعض التجاوزات التي تقوم بها حماتها في حقها مقابل اهتمامها بابنها. وتؤكد أنها ترفض أن تترك ابنها عند شخص لا تثق به وأن حماتها محل ثقة وتقدير حتى أنها قادرة على أن ترعى ابنها مثلها تماما أو أفضل.

ويخلق عدم وجود فضاءات لترك الأطفال إشكالا كبيرا للنساء العاملات، خاصة إذا كن يقمن في مناطق لا تتوفر فيها رياض أطفال أو لا يقمن بجوار منزل الأجداد.

ويرى الدكتور في علم الاجتماع الأردني سالم ساري أن رفض الأم العاملة لفكرة تربية أولادها عند إحدى الجدات سيخلق نوعا من المشاكل لها ولابنها لأن البدائل الموجودة ليست أفضل.

وقال ساري إن الطفل سيترك إما عند الخادمة وإما في إحدى دور الرعاية وهذان الحلان لهما سلبيات ومخاطر كبيرة وفق اعتقاده.

وأكد ساري أن الجدة جديرة بالثقة أكثر من دور الحضانة أو الخادمات لتربية الأطفال معتبرا أنه من الأفضل أن تضع الجدة اللبنة الأولى لتنشئة الطفل وإكسابه المقومات الأساسية للهوية الاجتماعية والقيم الدينية والعادات والتقاليد. وأشار إلى أنه بعد قيام الجدة والوالدان بدورهم يأتي دور المجتمع ليضيف الكثير من المتغيرات على شخصية الطفل الصغير.

من جهته أكد المختص في علم النفس أحمد الأبيض أن عناية الجدة بحفيدها يخرجها من حالة البطالة التي تعيشها ويكسبها دور الرعاية في البيت، وهو ما يجنبها حدوث المشاكل بينها وبين كنّتها.

وقال الأبيض لـ”العرب”، “يجب إعداد الآباء والأمهات ليكونوا أجدادا بما يمكنهم من العناية بالأحفاد مستقبلا مشيرا إلى أن رفضهم القيام بهذه المهمة يغذي شعور الإحباط لدى أبنائهم ويخلق بينهم المشاكل”.

وبين الأبيض أن الفوائد التي يمكن جنيها من وضع الطفل لدى جدته أو جده كبيرة ذلك أن الجدة يمكن أن تخرج الطفل من عالمه الافتراضي إلى العالم الواقعي بأن تتحدث معه عوض أن تتركه رهين الأجهزة الرقمية كالهواتف الذكية أو اللوحات الرقمية. وتعمد العديد من الأمهات إلى ترك أبنائهن مع الهواتف الذكية دون رقيب وذلك للتخلص من طلباتهم المتكررة.

وقال الأبيض في هذا السياق حتى وإن كانت الحكايات التي ستحكيها الجدة لحفيدها لا تتماشى مع واقعه وتعود إلى فترة عاشتها هي، فيمكنها بذكائها أن تجعلها مناسبة لعمر الطفل ومشاعره ولواقعه المعيش، وهي أفيد بالنسبة إليه من تركه وحيدا مع جهاز رقمي يمكن أن يسبب له الإدمان.

الجدة يمكن أن تخرج الطفل من عالمه الافتراضي إلى العالم الواقعي بأن تتحدث معه عوض أن تتركه رهين الأجهزة الرقمية
الجدة يمكن أن تخرج الطفل من عالمه الافتراضي إلى العالم الواقعي بأن تتحدث معه عوض أن تتركه رهين الأجهزة الرقمية

من جهتها تبرز كاتبة أدب الأطفال الأردنية وفاء القسوس في قصصها أهمية دور الجد والجدة في تنشئة الأطفال. وتقول إن هذه القصص حيكت من واقع تجربتها الشخصية وعلاقتها بجدتها.

كما يمكن للأجداد أيضا أن يجنوا الفائدة نفسها من تواجد الأحفاد في حياتهم، فقضاؤهم بعض الوقت مع أحفادهم يبعد عنهم الإحساس بالوحدة، الذي يعمق لديهم الشعور بالعزلة الاجتماعية ويصيبهم بالاكتئاب. وهو ما وضحته دراسة حديثة أكدت أن الأجداد والجدات الذين يساعدون من فترة إلى أخرى في رعاية الأحفاد يعيشون لفترة أطول من كبار السن الذين لا يهتمون بأحفادهم.

وتؤكد الجدة عائشة أن الفترة التي تبقى فيها بالقرب من حفيدها تنسيها كل الأوقات الصعبة التي مرت بها وتشعرها بأنها شخص مرغوب فيه وأنها محل ثقة وأنها أيضا ما زالت على دراية بعالم الأطفال الصعب وقادرة على الاهتمام بهم ورعايتهم.

ويؤكد الأبيض على أن الطفل الذي يتربى في أحضان جديه يكون طفلا مستقيم السلوك قادرا على مواجهة مصاعب الحياة وذا شخصية قويّة في المستقبل وذلك بفضل كمية الحب والحنان التي يحصل عليها منهما.

وكان الأبناء العصريون يفضلون الاستقلالية بحياتهم، ما يجعل الالتقاء بين الأحفاد والأجداد يقتصر فقط على المناسبات والأعياد، إلا أن ما تفرضه على بعضهم ظروف عملهم وظروف عيشهم عموما، جعلهم يعيدون التفكير في طريقة عيشهم بصورة اضطرتهم إلى التخلي عن استقلاليتهم مقابل راحة أبنائهم، وهو ما جعل تلك الظاهرة التي ميزت المجتمعات لعقود تختفي، لتحل محلها ظاهرة أخرى قوامها “اللمة” العائلية الكبيرة. فأصبح الأزواج الذين كانوا يفضلون العيش في منازل منفصلة، قريبين أكثر من عائلاتهم الموسعة. وأصبح الأجداد لا يعيشون الوحدة والتشوق لرؤية أبنائهم وأحفادهم على حد سواء.

كما كانت أغلب الأمهات اللاتي يشتغلن، لا يوكلن مهمة رعاية أطفالهن إلى أمهاتهن أو حمواتهن، بل يخيرن وضعهم في دور الحضانة، وقد يوظفن خادمات أو مربيات للاعتناء بهم، وخاصة عندما يكونون رضعا، إلا أن التطور السريع والمذهل الذي عرفه نسق الحياة جعل كلفة رعاية الأطفال ترتفع بنسق سريع ما جعل الآباء يفضلون الاستعانة بعائلاتهم ليكونوا أقدر على مجاراته كما مثلت رعاية الأطفال أهم واجب يمكن أن يقدمه الآباء لأبنائهم.

21