أبوستروف
رغم مرور أكثر من ربع قرن على توقفه، مازال البرنامج الثقافي الفرنسي أبوستروف يشكل علامة كبرى داخل خارطة البرامج التي تهتم بالكِتاب على مستوى فرنسا، بل وعلى مستوى العالم، حيث استطاع أن يشكل، طيلة خمس عشرة سنة، موعدا أساسيا، ليس فقط للنخبة الثقافية الفرنسية، ولكن أيضا لعموم الجمهور.
نجاحُ برنامج أبوستروف يعود إلى العديد من العوامل. ولعل أولها يكمن في دينامية وشخصية صاحبه، برنار بيفو، الذي استطاع أن يبتعد ببرنامجه عن الحوارات التقليدية وأن يمنحه نكهة مختلفة تجمع بين الجدية وبعض المرح والتشويق الذي يجعل من صدور كِتاب ما حدثا ثقافيا بامتياز. ولعل خير دليل على ذلك أنه بفضل البرنامج، استطاعت أعمال لم يكن بإمكانها أن تباع تحقيقَ أرقام قياسية على مستوى تداولها، خصوصا لمحدودية جمهورها المُفترَض، ومن ذلك كتب عالم الرياضيات جون ديودوني. برنار بيفو يعترف بأنه لم يكن يفكر يوما في أن يحترف مهنة والده كبقال، غير أنه كان يجد نفسه، مساء كل يوم جمعة، متماهيا مع هذه الحرفة، حيث كان عليه أن يساعد على بيع الكتب، وهو العمل الذي مارسه بشغف خلال أكثر من ستمئة حلقة من البرنامج.
برنامج أبوستروف استفاد أيضا من السياق العام المزامن له، والذي تكمنُ أهم علاماته في تَكرُّس مسار دمقرطة الثقافة، سواء على مستوى فرنسا أو بقية الدول الغربية، وأيضا في تطور بنيات النشر ومجالات تداول الكِتاب، وفي دينامية تطور الأفكار والنقاشات الفكرية التي كانت تعرفها فرنسا.
وبذلك، كان برنامج برنار بيفو، كما يقر بذلك الكاتب إرنست رينون، تجسيدا للعلاقة العميقة التي تطبع العقل الفرنسي والتي تربط دائما بين الذين يكتبون وبين الذين يقرأون الكتب والذين يحبونها. ولذلك كان عاديا أن يلتف الفرنسيون، كل جمعة وفي ساعة الذروة، حول برنامج أبوستروف، طيلة ساعتين.
لم يكن ممكنا للبرنامج أن يمر من دون “حوادث” ثقافية، اعتبارا لطبيعته المباشرة وأيضا لحرص برنار بيفو على جمع من لا يجمع من الكُتاب والمفكرين. ولعل أشهر هذه الحوادث هي التي ارتبطت بانسحاب الكاتب الأميركي شارل بُكُووْسكي من بلاتو البرنامج مخمورا. برنار بيفو اعتبر ذلك فضيحة، بينما أرجع بُكُووْسكي انسحابه، في حوار معه، إلى كونه وجد البرنامج مملا. أما الراحل محمد علي كلاي فقد اختار، في حلقة تعود إلى سنة 1976، أن يوجه كلامه بحدة إلى سكرتير سارتر، جون كو، قائلا “إذا كان هناك شخص لا أحبه فهو أنت. أعرف أنك تملك ما يكفي من الذكاء لكي لا تستفز محمد علي كلاي”.
في يونيو من سنة 1990، استضاف برنار بيفو ثمانين كاتبا؛ كانت الحلقة احتفالا كبيرا، انتهى بالإعلان عن توقيف البرنامج، غير أن آثاره ستظل حاضرة في ذاكرة الاحتفاء بالكِتاب وبالكتابة.
كاتب من المغرب