تحريم الطباعة
يبدو أن العالم الإسلامي أصرَّ على إضاعة أكثر من موعد مع تكنولوجيا الطباعة بعد ظهورها. وتعود لحظة التعرف الأولى إلى الطباعة إلى القرن الخامس عشر، الذي عرف المحاولات الأولى لاستعمال الحرف العربي ضمن مؤلفات لاتينية، وذلك مع صدور كتابين هامين هما “الحج إلى قبر المسيح” لبرنارد دي برينباخ، وكتاب عن النحو العربي لبيدرو دي ألكالا.
وسيفتح انتشارُ المطابع العربية بالعديد من مدن أوروبا، ومنها باريس وليدن ولندن وأوكسفورد، البابَ أما طبع العديد من الكتب، سواء الموجهة منها إلى القراء المسيحيين أو المسلمين. ومن ذلك القرآن الكريم، بالإضافة إلى الإنجيل و”القانون الثاني” لابن سينا و”نزهة المشتاق” للإدريسي و”كنز اللغة العربية” للفيروز آبادي. وبالطبع، كان يتم تداول هذه الإصدارات داخل العالم الإسلامي بفضل حركة التجارة القائمة حينها.
أما اللحظة الثانية فترتبط بإنشاء مطابع عربية من طرف العرب المسيحيين، خصوصا بالشام، ومن ذلك مطبعة قوزحية، بلبنان، التي تُعتبر الأولى من نوعها والتي يعود تاريخ تأسيسها إلى بداية القرن الـ17.
وبالرغم من التعرف المبكر إلى تكنولوجيا الطباعة وتداول إصداراتها داخل دول العالم الإسلامي، ظلت البنية الدينية المحافظة تُشهر رفضها، خلال قرون، أمام دخول الطباعة، عبر سلسلة الفتاوى الصادرة بأكثر من بلد.
الدولة العثمانية، التي كان يُفترض فيها أن تشكل المعبر الأساس بين الثقافات الأوروبية والعربية والإسلامية، شكلت الحاجز المنيع أمام دخول الطباعة. في هذا الإطار، كان السلطان العثماني مولاي بايزيد الثاني قد أصدر فرمانا يحرم الطباعة على رعاياه المسلمين. والأمر المفارق أنه خول للأقليات حق إنشاء مطابعهم داخل الدولة العثمانية، شريطة عدم استعمال الحروف العربية، حيث صارت لليهود والعرب المسيحيين مطابعهم الخاصة.
علماء الأزهر لم يكونوا بمنأى عن الموضوع، حيث أصدر بعضهم فتوى بتحريم طباعة الكتب الشرعية، بدعوى كونها تحرف العلوم. وإلى ذلك ذهبت فتاوى فردية، ومنها فتوى الفقيه المغربي محمد بن إبراهيم السباعي، الذي خط وثيقة سماها “رسالة في الترغيب في المؤلفات الخطية، والتحذير من الكتب المطبوعة، وبيان أنها سبب في تقليل الهمم وهدم حفظ العلم ونسيانه”.
أما تأسيس أول مطبعة عربية بإسطنبول فسيتم بعد قرنين ونصف القرن عن صدور فرمان تحريمها. وكان وراءها المجري إبراهيم متفرقة، الذي استطاع استصدار فتوى من شيخ الإسلام وأمرا جديدا من السلطان أحمد الثالث بجواز طباعة الكتب. غير أنه بعد ثلاث سنوات من ذلك، سيتم إحراق مطبعة متفرقة في خضم ثورة الضابط خليل باتروني، والتي ستنتهي أيضا بعزل السلطان. فتاوى التحريم لن تنتهي مع حكاية الطابعة. إذ يبدو أن الكثير من الفقهاء قد أدمنوا على تحريم كلّ شيء تُشم فيه رائحة الروم.
كاتب من المغرب