بعد ربع قرن.. الصحافة تبحث عن حريتها
قبيل احتفال صحافيي العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة كتقليد درجت عليه العادة منذ ربع قرن، حمل تقرير لمنظمة مراسلون بلا حدود في نسخته لهذا العام أخبارا سيئة وتعيسة ومحبطة وسجّل تراجعا عميقا ومزعجا في حرية صاحبة الجلالة على كل المستويات عالميا وإقليما. وهذه النزعة التي طالما كانت علامة مميزة لتقهقر الإعلام ولا تظهر أي علامة للانحسار قريبا. ومع ذلك يتطلع الصحافيون إلى غد أفضل يحققون فيه طموحاتهم.
وبشكل عام بقيت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا واحدة من أصعب وأخطر المناطق على الصحافيين، إذ فقد العشرات منهم أرواحهم بينما يقبع آخرون في السجون أو يعانون من الترهيب والرقابة على نشاطهم. بيد أن تونس شكلت الاستثناء بالرغم من التحديات الكثيرة التي تواجهها باحتلالها المركز الثاني عربيا كما أن المفاجأة الكبرى كانت بتصدّر موريتانيا للدول العربية في مجال حرية الصحافة. ومع ذلك لا تزال أمام الصحافيين العرب أشواط كثيرة لبلوغ أهدافهم. وقد لا يحققوها.
اليوم العالمي للصحافة الذي تبنته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونيسكو” خلال اجتماع للصحافيين الأفارقة في الثالث من مايو 1991 في ويندهوك عاصمة ناميبيا يمثل الاحتفال بالمبادئ الأساسية لحرية الصحافة وفرصة لتقييم حالها في كل أنحاء العالم وللدفاع عن وسائل الإعلام أمام الهجمات التي تتعرض لها، وللتذكير بدور الصحافيين الذين فقدوا أرواحهم أثناء أداء واجبهم. فالكلمة وحرية الرأي والتعبير والصحافة حقوق يجب أن تكفلها الحكومات من خلال الدساتير والقوانين، ولكن هذا لا يحدث على أرض الواقع، ولذلك تصدر منظمة “فريدوم هاوس” في كل عام تقارير مضمنة بمؤشرات الحريات على مستوى العالم علها تضع يدها على الداء لعلاجه.
ورغم أن الصحافة لم تعد مهنة البحث عن متاعب فحسب، بل باتت مهنة البحث عن الموت بعد أن دفع المئات من الصحافيين حياتهم ثمنا لحقيقة يبحثون عنها، فأصبحت دماؤهم تروي شجرة الحرية في بلاط صاحبة الجلالة، لكن ومع ذلك تبدو مأساة الصحافيين العرب أكبر منها في أي بقعة من العالم، فهذه المهنة لا تزال في دول عربية جالبة للمتاعب وقامعة للحقوق وكاتمة للحرية ويتجلى ذلك من خلال حملات الاعتقال المستمرة مرورا بالسجن وصولا إلى القتل أحيانا.
إن مصادر الضغوط التي يتعرض لها الصحافيون تتنوع من دولة إلى أخرى، فمن خلال سعي حكومات عدة إلى سن قوانين تقيّد حريتهم وتربط تعسّفيا بين نشاطهم وبين ما تدعيه بشأن الأمن القومي وضغوط الجماعات المتطرفة التي تستخدم تكتيكات للترهيب بهدف التحكم في آراء الصحافيين.. لكن هناك ضغط آخر أصبح سمة هذا الزمان ألا وهو تحكم أرباب وسائل الإعلام فيهم عبر طرق وأساليب تمس من كرامتهم وحقوقهم.
ليست حرية التعبير والحرية أثناء ممارسة العمل الصحافي من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها ريثما تتحقق التنمية المستدامة أو حينما يسدل الحاكم قوته على السلطة، كما يعتقد البعض، بل إن الحرية بمفهومها المطلق يجب أن تحقق التمتع بجميع حقوق الإنسان وهي بالتالي ضرورية لبلوغ الحكم الرشيد وسيادة القانون. ولذلك يريد حاملو هذه الرسالة النبيلة تكريس ذلك المفهوم في عيدهم كل سنة. من المفترض أن يكون عيد الصحافيين يوما مختلفا يتم فيه استعراض عام مضى من حياتهم العملية واسترجاع ذكريات بحلوها ومرّها وعدد الساعات التي قضوها بعيدا عن أسرهم وأولادهم، إلا أنه بات موعدا سنويا يستذكرون فيه أسوأ أحداث عايشوها في ساعات عملهم وسط الصراعات التي تسود عدة مناطق من العالم.
وكثيرا ما تكون الكلمة سلاحا أقوى من الرصاص، لذلك فإن السلطة تتعامل معها على أنها عدو لا بد من القضاء عليه وتحاول في كل مرة ممارسة التعتيم حتى تختفي معه الحقيقة ويظل الصراع باقيا طالما بقي الظلم والقمع وطالما بقي الشرفاء يسعون وراء الحقيقة حتى ولو دفعوا دماءهم لأجل إظهارها.
هذا اليوم يعتبر فرصة لتقييم وضع الحريات الصحافية والتذكير بضرورة التحلي بأخلاقيات هذه المهنة السامية ووضع حد للانتهاكات التي تضعها البعض من الدول في الرقابة والقمع أثناء تأدية عمل الصحافيين في نقل الخبر، حيث يدفع بعضهم الثمن غاليا مقابل حق المتلقي في أن يعرف ما يدور من حوله.. ويبدو أن الوضع سيبقى على حاله إلى أن يأتي ما يخالف ذلك.. وغدا يوم آخر..
كاتب وإعلامي تونسي