كونتي خادم النور

السبت 2016/03/26

يشبه الشاعر الإيطالي جوزيبي كونتي نفسه بحالة شاعر عربي يُقيم داخل حي يحف بسكان عنصريين. تلك وضعيته بالضبط. غربةٌ مضاعفة ضريبة لافتتانه العاشق بالثقافة العربية والإسلامية. بالعشق ذاته، بالاحتفاء نفسه، يفتح جوزيبي كونتي أفقا مغايرا للكتابة الشعرية والسردية. تشي بذلك أعمالُه الشعرية، “المواسم”، و”أبريل الأبيض الأخير”، و”المحيط والطفل”، و”الشاعر والرسول”، و”حكايات الشرق والغرب”، ثم نصوصه السردية “الربيع المشتعل”، و”أيام الليل” ، “والضابط الثالث”، و”المومس”، بالإضافة إلى مجموعته الشعرية “فرح بلا اسم” الصادرة مترجمةً إلى العربية، قبل سنتين، من طرف حذام الوغيري، بدمشق.

درَس جوزيبي كونتي الأدب والفنون بجامعة ميلانو بإيطاليا خلال سنوات الستينات. ومنحه ذلك إمكانية استكشاف الماركسية والتحليل النفسي والبنيوية والسيميولوجيا، ومختلف أشكال الفن الطليعي، غير أنه سينتفض خلال السبعينات، على كل تجليات الثقافة التي كادت أن تغتال الشعر داخله. حيث حرص، بشكل عاشق، على إعادة اكتشاف فنون الشعوب البدائية، وشعر الطبيعة والحب في بعده الكوني من خلال أدبيات المرحلة الذهبية للرومانسية الأوروبية، الممتدة من هلدرلين إلى شيلي، ثم إلى فوسكولو. وبذلك أعاد كونتي تمثُّلَ الأسطورة وامتدادها الفكري، ليس بهدف العودة إلى الماضي، بل كانت تقوده في ذلك رغبته الحقيقية في الإبداع وفي تخيل أفق إنساني آخر.

ولذلك كان طبيعيا أن تشكل الطبيعة والأسطورة تيمة أساسية لنصوصه الشعرية. وكان هاجسه في ذلك أن يدافع عن الشعر ضد أشكال القتل التي تمُارس عليه في إطار الامتدادات المادية والعدمية للحضارة الغربية، خصوصا في سياق صار فيه الشعر، سواء في إيطاليا أو في العديد من الدول الأوروبية، نوعا من اللعب الفكري واللغوي، وعالما خاصا، مُفرغاَ من الآلهة وشُحن العشق والوجد والشدو كما يصفه كونتي.

يبدو جوزيبي كونتي عاشقا للثقافة والشعر العربيين. وكان دائما مُبهرا بقوة وإيقاع القصيدة العربية، حيث ترجم عملا شعريا لأدونيس إلى الإيطالية. وفوق ذلك، يهتم كونتي بشكل كبير بالموروث الثقافي العربي والتركي العريق، حيث قرأ بعشق ابن فريد، وجلال الدين الرومي، وغيرهما. كما درس تاريخ الفكر الإسلامي، وزار مختلف الدول الإسلامية، من المغرب إلى طهران. ولذلك كان طبيعيا أن يختار كاسم مستعار “يوسف عبدالنور” حين كتب “أغاني الشرق”، مُلهَما في ذلك بالتقاليد الصوفية. لقد صلي من أجل أفق الشعر الكوني على قبر حافظ بشيراز، كما تلقف خطى أبي نواس، شاعر الخمرة والجنس.

حدث لـجوزيبي كونتي، خلال لحظة ما، أن فكر في اعتناق الإسلام، كما كشف لي في حوار أجريته معه قبل سنوات، غير أنه انتبه إلى أنه لن يستطيع أن يكون وفيا لغير إيمانه بالشعر. وتلك هي الطريقةُ الأفضلُ لخدمة النور.

كاتب من المغرب

17