موناكو "إلياذة" الألفية الثالثة
في طريقنا من نيس إلى موناكو، أوقفنا تشغيل جهاز “الجي بي آس”، الخاص بنا، عامدين متعمدين، فمن الجيد أن تضيع بين ثنايا الطرقات المؤدية إلى موناكو، ولن تضيع أبدا. طريقان، فقط يوصلانك إلى موناكو، إما الكورنيش، وإما المسلك الجبلي.. كلاهما أجمل من الثاني، واخترنا الطريق الجبلي.
سحر لا يوصف، تل وجبل وخليج.. أوقفنا السيارة في منعطف خلاّب، ونزلنا لنرى من شاهق، ميناء اكتظّ باليخوت والبواخر، تذكّرت حينها مشهدا خرافيا من الفيلم الأميركي الشهير “طروادة”.
استرجعت مشهد هجوم الإسبرطيين على الطرواديين في حصار طروادة الشهير، تذكّرت باريس الذي خطف هيلين الطروادية ملكة أسبرطة الفاتنة، ووعيد منيلاوس زوجها المخدوع، وتشفي شقيقه أجاممنون الطامح إلى السيطرة على بلاد الإغريق -وإن على حساب مشاعر الأقربين- تذكرت هيكتور وقتاله الخارق مع آخيل.
وتذكّرت وتفكّرت، حتى نسيت أني في القرن الحادي والعشرين، بل في الألفية الثالثة، أصلا. عذرية المكان وطبيعته الأخاذة، أحالتاني إلى الميثولوجيا اليونانية بإلياذتها وأوديسياها، بحصانها الخدعة، وكعب أخيل المميت، وعشق باريس وهيلين الكارثي، وموت هيكتور الخالد.
في ذروة خيالاتي الاستعادية لأكثر من ثلاثة آلاف سنة مرّت، همس لي صاحبي، وكأنّه قرأ شطحات أفكاري التي اعتادها، وقال: “إلى الحاضر الآن..”!
اتجهنا رأسا إلى نبض الإمارة “مونت كارلو”، مدينة لا توصف، بذخ خرافي، مبان شاهقة، وسيارات فارهة ما أنزل الله بها من سلطان في مدينة الأمراء، أكبر الماركات العالمية كـ”فيراري” و”بورش” تبدو في مونت كارلو سيارات شعبية!
في محل لبيع الملابس الرجالية الفاخرة، استرعت انتباهي لافتة كتب عليها (تخفيض يصل إلى 70 بالمئة)، في غير موسم التخفيضات. تقدّمت بخطى واثقة نحو المحل، وكلي أمل في أن أحصل على ما أريد، وأنا الذي ينتظرني بعد شهر من الآن زواج قريب من العائلة. اخترت طاقما رجاليا كلاسيكيا متكوّنا من قطعتين: بنطلون وسترة، لا غير، وسألت عن الثمن؟
فأتتني بائعة جميلة وعلى محياها ابتسامة عريضة، وأبلغتني السعر.. صعقت مرّتين، مرّة لسحر الابتسامة العريضة للبائعة الجميلة، ومرّة أخرى، لضخامة السعر الذي لم تجد إمكانياتي المادية المتواضعة أمام هوله حيلة، حتى بعد التخفيض!؟
2600 يورو، نعم، ذاك هو الرقم المخفّض الذي نطقت به البائعة الجميلة مقابل بنطلون وسترة، فطلبت الستر لحافظة نقودي المسكينة، وغادرت المحل مهرولا، تاركا ورائي البائعة الجميلة بابتسامتها العريضة، غير آسف عليها!
كان لابدّ من البحر، ليرطّب عنّي صدمتي.. عُدت إلى رفقتي ونزلنا بحر موناكو، أو بعبارة أدق مسبح موناكو الكبير، فالبحر في موناكو مشيّد على شاكلة حوض سباحة، مطوّق من ثلاث جهات، ليظل مفتوحا على واجهة بحريّة واحدة، ربّما حتى لا يفقد البحر المسيّج مدّه وزجره..
خلصنا إلى استنتاج واحد وأكيد، أنّه لا أحد يغرق في بحر موناكو! في صباح اليوم العاشر انتهت رحلتنا إلى الساحل اللاّزوردي، وفي أنفسنا شيء لا يزال ورديّا.