دراما المعارضة التونسية واستعادة هيبة الدولة

أحد أكبر العوائق أمام انطلاق قطار الإصلاح كان عجز الطبقة السياسية عن تجاوز صراعات الهوية والأيديولوجيا. فقدت الأحزاب التونسية وتيار الإسلام السياسي ثقة الشارع، ولم ينتجا نخبة قادرة على تعبئة الرأي العام حول مشاريع واقعية تفيد التونسيين. وفي الوقت الذي تتآكل فيه المشاركة السياسية من قبل حكام الأمس، يبدو مشهد المعارضة اليوم أقرب إلى دراما سياسية بلا حبكة ولا نهاية.
هذه الفكرة يجسدها سياسيون وإعلاميون وجمعيات حقوقية، ويستميتون في ترسيخها لدى الرأي العام. تلك الأحزاب التي اندثرت فعليًا، وبعض وسائل الإعلام وناشطو وسائل التواصل الاجتماعي ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان التي تعمل ضمن أجندات معروفة، تبذل جهودًا متواصلة منذ أن بدأت الدولة قبل خمس سنوات في تصحيح المسار، للترويج لفكرة أن تونس في مستنقع سياسي خطير ولا بد من إنقاذها.
يتغذى هذا الشعور من ملفات عديدة، منها قضية التآمر على أمن الدولة، وسياسة الهجرة، ومكافحة الفساد، ناهيك عن ترميم الاقتصاد وغيرها. انظروا إلى أولئك الذين يتظاهرون ضد السلطة تحت يافطة الحرية، والتي يكفلها الدستور أصلًا؛ فهم مستعدون للركوب على أيّ حدث خدمة لأجنداتهم، كما هو الحال في ما رأيناه يوم الاحتفال بعيد العمال.
◄ المستقبل في تونس يحتاج إلى أكثر من شعارات لم تعد تنطلي على الشعب. تونس في أمسّ الحاجة إلى قوى مدنية وعقلانية وبراغماتية تؤمن بالدولة لا بالمرجعية، وبالحلول لا بالهوية
هل منعتهم تلك السلطة من التعبير عن آرائهم؟ سيقولون إن السلطة تقمعهم. كيف ذلك؟ لا نعلم بالضبط. صحيح أن هناك خروقات من الجانبين (السلطة والمعارضة)، لكن ألا يعلم الجميع أنهم أبناء دولة واحدة اسمها تونس، وأنه لا أحد يعلو فوق هيبة الدولة مهما علا شأنه أو علاقاته؟
الكثير من الأحزاب، خاصة تلك التي لا تتولى الحكم، تبني خطابها السياسي بالكامل على نقد الآخر. تهاجم الرئيس قيس سعيد أو تتهم الحكومات المتعاقبة بالفشل، لكنها لا تقدم في المقابل حلولًا عملية أو برامج واقعية. المواطن، الذي يعاني من أزمات اقتصادية خانقة وارتفاع الأسعار، لا يكتفي بالخطابات، بل يبحث عمّن يملك رؤية واضحة للخروج من الأزمة.
لم تكن الإطاحة بالنظام السابق في يناير 2011 مجرد لحظة انفجار شعبي ضد الاستبداد، بل كانت أيضًا اختبارًا صعبًا لكل المشاريع السياسية التي طالما ادّعت امتلاك الحل. ومن بين هذه المشاريع، الإسلام السياسي كنموذج اصطدم بجدار الواقع، وسرعان ما تحول من وعود الخلاص إلى عبء على مسار الدولة، حتى صار في أعين جزء واسع من التونسيين ورقة محروقة لا تصلح لمستقبل البلاد.
حين صعدت حركة النهضة إلى الحكم، كانت تستفيد من رصيد المظلومية والمعارضة الطويلة. سنوات المشاركة ثم التمكين كشفت هشاشة الخطاب الأخلاقي الذي طالما رفعته. فبدل أن تقدم نموذجًا مغايرًا في الحوكمة، دخلت بسرعة في لعبة المحاصصة والتسويات الفوقية وحتى التحالفات المتناقضة، كما حصل مع نداء تونس في 2014. هذا أفقدها هويتها أمام أنصارها وصورة المنقذ أمام خصومها.
كان شقٌّ من الأحزاب، التي اندثر أغلبها، يتملق ليكسب مقعدًا في سياسة الحركة، لدرجة أنك في بعض الأحيان تشك في أن هناك من يعارض النهضة. هذه حقيقة. اليوم نرى عكس ذلك، إذ هناك مجموعة ممن يحاكمون لأنهم عبثوا بالدولة سياسيًا واقتصاديًا وماليًا، وتجد نفس تلك المعارضة في صفهم. هل بهكذا أسلوب سيتم استدراج التونسيين إليهم وإقناعهم بأن مشروعهم حقيقي؟
أحد أكبر الإشكالات البنيوية في تيار الإسلام السياسي والمدافعين عنه هو فشله في الفصل الواضح بين الدعوي والسياسي. في تونس، برز هذا التناقض بوضوح، حيث وجدت النهضة نفسها تارة تبرر قرارات حكومية فاشلة، وتارة تقدم خطابًا أخلاقيًا مثاليًا لا يتماشى مع واقع السياسة. هذا التذبذب أفقدها الوضوح والمصداقية، وجعل الكثيرين يرون فيها حزبًا عاجزًا عن تقديم مشروع وطني جامع يتجاوز هويته الأيديولوجية.
◄ الأحزاب التي اندثرت فعليًا، وبعض وسائل الإعلام وناشطو وسائل التواصل الاجتماعي ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان تبذل جهودًا متواصلة للترويج لفكرة أن تونس في مستنقع سياسي خطير ولا بد من إنقاذها
رغم محاولات التطمين، ظل جزء من التونسيين يخشى من مشروع الإسلام السياسي، خاصة في ما يتعلق بالحريات الفردية وحقوق المرأة والنموذج المدني للدولة. لم يكن هذا الخوف وليد أوهام، بل استند إلى تجارب حية في بلدان عربية أخرى، حيث تحولت الأحزاب الإسلامية إلى أدوات لإعادة تشكيل المجتمع وفق رؤية محافظة ومغلقة. وفي بلد مثل تونس، حيث للمكاسب الاجتماعية حساسية خاصة، شكلت هذه الهواجس حاجزًا أمام توسع الإسلام السياسي جماهيريًا.
المفارقة أن الإسلام السياسي بنسخته التونسية والأحزاب السياسية الأخرى التي كانت تدور في فلكه لم يُقصَ عبر انقلاب أو حظر، بل خسر مشروعيته تدريجيًا من داخل المنظومة الديمقراطية التي أتى بها. فقد كان جزءًا من الحكومات التي أضعفت الاقتصاد وأخّرت الإصلاحات، وسمحت بتفشي الفساد والمحسوبية.
لم يعد بالإمكان إلقاء اللوم فقط على بقايا النظام السابق، ولا على ما يسمى بـ”الدولة العميقة”، لأن الناس جربوا المشروع ولم يجدوا فيه منقذًا. وما بعد 25 يوليو 2021 شكل لحظة فارقة. بغض النظر عن الموقف من إجراءات الرئيس سعيّد، فإن المزاج الشعبي عبّر عن رغبة في طي صفحة عشر سنوات من الفوضى، وربما حتى الحياة الحزبية التقليدية برمتها.
لم يكن سقوط شعبية حكام تونس السابقين مجرد عقاب سياسي، بل إعلان نهاية أحد أحلك المراحل في تاريخ الدولة. معظم التونسيين فهموا اللعبة مع مراقبتهم عن كثب لما يحدث في المنطقة العربية الساخنة، ووصلوا إلى قناعة بأن تلك الفترة ولّت ولن تعود، حاملين فكرة أن “المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين.”
جرب التونسيون التغيير في سياق ديمقراطية هشة مع سياسيين لم يكونوا قادرين على تقديم أنفسهم خدمة للصالح العام. لقد استُهلكت ورقة التعددية الحزبية بلا فائدة واهترأ خطاب من يروّج لها، وتراجعت جاذبيتهم. إذا كانوا جادين، فلماذا لم ينفذوا وعودهم؟ ولماذا فضّل بعضهم الفرار إلى الخارج بدل مواجهة الوضع الكارثي الذي يزعمون؟
المستقبل في تونس يحتاج إلى أكثر من شعارات لم تعد تنطلي على الشعب. تونس في أمسّ الحاجة إلى قوى مدنية وعقلانية وبراغماتية تؤمن بالدولة لا بالمرجعية، وبالحلول لا بالهوية.