التعاون الممنوع بين تونس وصندوق النقد الدولي

بين تفاؤل الأرقام وتعثر السياسات يقف صندوق النقد الدولي في موقع المتحفز يراقب تطورات المشهد التونسي وهو ممسك بتقارير النمو والتضخم في يد، وبالتحفظات على مسار الإصلاح في اليد الأخرى. صحيح أن الأرقام تتحدث عن نمو محتمل وتحسن طفيف في مؤشرات الاقتصاد الكلي، لكن هذا التفاؤل الحسابي لا يخفي قلقًا متزايدًا ليس من افتقار الإرادة السياسية الحاسمة لتطبيق إصلاحات هيكلية مهمة ومؤلمة، طال انتظارها، وإنما في ترجمتها حتى تصبح واقعا ملموسا.
في حين نشر صندوق النقد عشية انعقاد اجتماعات الربيع السنوية مع البنك الدولي في واشنطن توقعات تبدو إيجابية إلى حد ما بشأن الاقتصاد التونسي (نمو ضعيف ولكن إيجابي، وتضخم منضبط)، فإنه أعرب أيضا عن تخوفه إزاء الافتقار إلى الإصلاحات الأساسية. تسلط هذه الثنائية الضوء على معركة أعمق: الصراع بين المطالب التكنوقراطية للمؤسسات المالية الدولية والديناميكيات السياسية والاجتماعية الداخلية لبلد يسعى إلى الاستقرار.
في وضع ضاغط كهذا من المفترض أن تتجنب تونس مراكمة المزيد من الديون الخارجية حتى تستعيد عافيتها
من خلال تجارب ناجحة في منطقتنا كمصر والمغرب والأردن، فإن صندوق النقد لا يصرّ على أن تقترض منه الدول، لكنه يعرض القروض كخيار للدول التي تمرّ بأزمات مالية أو اقتصادية، مثل نقص السيولة أو عجز كبير في الميزانية. في حالة تونس، الأسباب التي تجعله مهتما بتقديم قرض لها تتلخص في كونها دولة مهمة من الناحية الإستراتيجية لقربها من أوروبا ومحاطة باضطرابات في المنطقة ومن المفيد أن تكون مستقرة أمنيا واقتصاديا وماليا.
الخلاف مع تونس يتجاوز لغة الاقتصاد التقليدية. إنه خلافٌ يضرب في عمق البنية السياسية والاجتماعية. فالمؤسسات الدولية المانحة، وعلى رأسها صندوق النقد، تطالب برفع الدعم وإصلاح منظومة الأجور وتقليص الوظائف العمومية، وإعادة هيكلة المؤسسات الحكومية وتحرير السوق. في المقابل، تواجه شريحة واسعة من الشارع التونسي كل ذلك بشك ورفض، معتبرة أن فاتورة الإصلاح غالبًا ما يدفعها المواطن البسيط، بينما تتوارى النخب عن التضحية.
هنا يتجلى الصراع الحقيقي.. بين منطق الأرقام البارد الذي يتبناه الصندوق، ومنطق الشارع الحار الذي تحكمه الذاكرة الاجتماعية والإحساس بالعدالة المفقودة. في خضم هذا التوتر، لا تبدو الحلول سهلة ولا الآفاق واضحة. فهل تملك تونس ترف المماطلة أكثر؟ أم أن التأجيل المستمر سيُكلّفها أثمانًا سياسية واقتصادية أثقل من كلفة الإصلاح ذاته؟
تفكيك هذه الأحجية بسيط للغاية في الواقع. ففي وضع ضاغط كهذا من المفترض أن تتجنب تونس مراكمة المزيد من الديون الخارجية حتى تستعيد عافيتها. ولكي تحقق غايتها يبدو محور السياسة الراهنة هو البوصلة لذلك: لا قروض من صندوق النقد بشروط تعجيزية تؤدي إلى المزيد من الفقر وتزعزع الاستقرار الاجتماعي. هذا الموقف ردده رئيس الجمهورية قيس سعيد ووصف هذه الشروط بأنها “عود ثقاب” في منطقة قابلة للاشتعال، مذكرًا بانتفاضة الخبز عام 1984 التي أسفرت عن سقوط ضحايا بعد رفع الدعم عن الحبوب.
التحدي الحقيقي لا يتمثل في الحصول على خطوط الائتمان من مؤسسات دولية تخدم أجندات معينة تحت يافطة الدعم التنموي، وإنما في استعادة عقد الثقة بين الدولة والمواطنين لبناء تونس المستقبل
ولئن كانت تلك الأزمة عنوانا لأزمات لاحقة عاشت البلاد على إثرها على وقع أزمة مركبة: سياسية واجتماعية واقتصادية أفضت إلى تنحية الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في عام 1987، ثم جولة جديدة مع صندوق النقد سنة 1988، المعروفة بـ”الإصلاحات الهيكلية الكبرى”، حيث تمكنت السلطات حينها وعلى مدار عقدين في تنفيذ برنامج تقشف ساعد في تحسين المؤشرات وحتى الإطاحة بنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي في 2011، لكن الفشل لازم حكومات ما بعد الثورة.
في العشرية الماضية تكثفت وتيرة الاقتراض، إذ لجأت تونس إلى جولتين مع الصندوق، حيث وجهت التمويلات لشراء السلم الاجتماعي بسبب اشتداد المطالب الاجتماعية نتيجة مناخ الحرية السائد حينها. وفي النهاية فش البرنامجان في تحقيق الأهداف. وأوقف الصندوق صنبور القروض.
إذا كان الصندوق جادا في تقديم المساعدة دون حدوث انعكاسات سلبية، فكيف له أن يقنع سلطة ترى أن لديها من الأدوات الكافية لتجاوز الصعوبات الكثيرة متكئة في تحقيق غايتها على صبر التونسيين، وهم في عز محنتهم، بدليل أنها عبأت ديونا خلال العامين الماضيين لتمويل الميزانية من السوق المحلية عبر تمويل من البنوك واقتراض من البنك المركزي وطرح سندات مع الوفاء بسداد ديونها الخارجية، دون الحصول على دولار واحد من المؤسسة الدولية.
الأمر لا يتوقف بالمطلق على طريقة التعاون الذي يفترض أن يراعي ظروف تونس الاقتصادية لكي تخرج من نفق أزماتها المزمنة مع تنفيذ إصلاحات لا تؤثر سلبا على الطبقات الهشة، بدليل أن الرئيس سعيد اقترح قبل عامين تحويل الديون إلى مشاريع تنموية بدلا من القروض التقليدية.
الدولة لا تحتاج فقط إلى خطة اقتصادية، بل إلى مشروع اجتماعي وسياسي وطني موثوق، قادر على ربط الصرامة المالية بالعدالة الاجتماعية وفق حنكة سياسية، فالتحدي الحقيقي لا يتمثل في الحصول على خطوط الائتمان من مؤسسات دولية تخدم أجندات معينة تحت يافطة الدعم التنموي، وإنما في استعادة عقد الثقة بين الدولة والمواطنين لبناء تونس المستقبل.