مواقع التواصل تشكل محاكم موازية لإنصاف البسطاء في مصر

منصات التواصل الاجتماعي منصات مجانية للكثير من الفئات المستضعفة في مصر لتوصيل رسائلهم إلى المسؤولين.
الجمعة 2025/02/14
الإشاعات خطر مزعزع

القاهرة - هناك مثل شعبي شهير في مصر يقول “من ليس له ظهر سوف يضرب على بطنه”، في إشارة إلى أهمية السطوة والحظوة المادية والمعنوية. ومؤخرا وجد الكثير من المصريين في مواقع التواصل الاجتماعي ظهرا لهم يحميهم من تغول أصحاب النفوذ، ويرد عن البسطاء المظالم التي قد يتعرضون لها، لتعوض بذلك الدور الذي كانت تلعبه الصحف والقنوات الخاصة في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الراحل حسني مبارك، ومع تزايد القيود المفروضة على الإعلام التقليدي باتت تلك المواقع الملاذ المضمون للكثير من الضحايا، وتحولت إلى شرطة ومحاكم موازية تحاصر المتهمين وتحاكمهم شعبيا دون انتظار ساحات القضاء.

وساهمت مواقع التواصل مؤخرا في تفجير العشرات من القضايا ولفتت الأنظار إلى الكثير من حالات الغبن، وأجبرت بعض الجهات الرسمية على التعامل بجدية واهتمام بالغين مع القضايا خاصة بعد أن تحولت إلى ترند، وبلغ نجاحها إقناع الآلاف من المصريين بأن نشر مظالمهم على مواقع التواصل أفيد من الذهاب بشكواهم إلى الشرطة، وفي بعض الحالات تسعى الشرطة خلف صاحب المشكلة لمساعدته في حلها.

وتتيح مواقع التواصل لأصحاب المظالم مزايا متعددة، منها سرعة الانتشار، حيث يمكن لأي شخص نشر قضيته والوصول إلى الآلاف من الأشخاص في دقائق، والضغط على جهات رسمية، تضطر إلى التحرك عندما تتحول قضية معينة إلى حديث في المجتمع، وتوفر منصة لأشخاص لا يثقون في بعض الإجراءات الرسمية، فيلجأون إلى النشر.

ووفرت مواقع التواصل منصات مجانية للكثير من الفئات المستضعفة في مصر لتوصيل رسائلهم إلى المسؤولين بعيدا عن البيروقراطية، خصوصا في حالات العنف الأسري والتحرش والتنمر، والتي لا تتعامل معها الشرطة أحيانا بجدية كافية، وتعتبرها حالات فردية ما لم يكن صاحب الشكوى يملك نفوذا أو “واسطة” تدفع المعنيين إلى الاهتمام بالبحث في شكواه.

♦ "جنون الترند" يدفع الكثير من الباحثين عن الشهرة السريعة والمكسب السهل إلى فبركة فيديوهات غير حقيقية

وتطور الأمر إلى حد لجوء البعض إلى استخدام مواقع التواصل في الضغط من أجل حل مشاكل شخصية، مثل تعديل رسوم خدمة حكومية أو رد بضاعة وجدها غير مطابقة للمواصفات بعد أن اشتراها بالفعل.

وتوجد العشرات من الحالات التي تسببت مواقع التواصل في الكشف عنها ودفعت الجهات المختصة إلى التعامل معها بجدية، مثل قصة ابن القاضي الذي كان يقود سيارة والده قبل أن يكمل السن القانونية لاستخراج رخصة قيادة، ثم أهان شرطي المرور حين حاول توقيفه، وقصة الزوجة إسراء التي نشرت صورا لها وهي مصابة بجروح خطيرة بعد تعرضها للعنف من زوجها، ما دفع الشرطة إلى القبض عليه بعد تحول الفيديو إلى ترند.

وأحدث الحالات تخص طبيبة جراحة تدعى إنجي الغمراوي، نشرت على حسابها بموقع فيسبوك استغاثة بسبب الاعتداءات التي ادعت أنها تتعرض لها هي وطفلها على يد بلطجية مأجورين من أهل زوجها المتوفي لإجبارها على ترك منزلها، وفشلت في الحصول على حقها من الشرطة، بعد تقدمها بثمانية عشر بلاغا، لأن والد الزوج المتوفى يشغل منصبا كبيرا، وعقب نشر استغاثتها جرى تداولها على نطاق واسع واستطاعت كسب الآلاف من المتعاطفين معها، وتبرع أكثر من محام لمساندتها بجانب سيدات من نشطاء حقوق المرأة، مثل المحامية نهاد أبوالقمصان التي تعهدت بالقضية ونشرت فيديو على حسابها الشخصي للتنديد بما تعرضت له الطبيبة ومعظم الأرامل في مصر من التعدي على حقوقهن.

وتقول الناشطة منى سيف إن مواقع التواصل ملاذ للكثير من المظلومين الذين لا يملكون نفوذا أو قدرة على توظيف مستشارين قانونيين يستطيعون تأمين حقوقهم، بينما يراها الإعلامي إبراهيم عيسى دليلا على فقدان الكثيرين الثقة في النظام القانوني، وهو تطور خطير يستوجب، من وجهة نظره، قيام الدولة بإصلاح منظومة العدالة، وضمان سرعة الاستجابة للشكاوى الرسمية.

في المقابل، هناك اعتراض على التعامل مع مواقع التواصل باعتبارها “شرطة بديلة” أو حتى “سلطة رابعة” كونها تعرض وجهة نظر واحدة قد تكون صحيحة أو خاطئة، ولا تخضع لمعايير مهنية للتحقق من صحتها، مثلما كانت تفعل وسائل الإعلام التقليدية، بدليل وجود العشرات من الحالات التي لقيت تعاطفا واسعا وقت نشرها، ثم تبين لاحقا أنها كاذبة.

وما يزيد من تفاقم ظاهرة “القصص المزورة” أن القانون المصري لا ينص على عقوبات واضحة ضد من ينشرون أخبارا كاذبة على مواقع التواصل، طالما أن تلك الأخبار لا تمس الأمن القومي أو الاقتصاد المصري، أو تؤدي إلى تكدير السلم العام أو الإضرار بالمصلحة العامة. والمادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات الوحيدة التي تتضمن عقابا على نشر الأخبار الكاذبة أو المحتوى الذي ينتهك خصوصية الأفراد، لا يتم تفعيلها غالبا إلا في حالات نادرة.

وأشهر تلك الحالات قصة الطفلة خديجة التي كتبت والدتها منشورا على فيسبوك، زعمت فيه تعرضها للاختطاف من أمام منزلها، وناشدت الناس مساعدتها في العثور عليها، وخلال ساعات أصبحت القضية ترندا في مصر، وشارك الآلاف في البحث عنها، وتحركت الشرطة نتيجة الضغط الشعبي الهائل، لكنها أعلنت لاحقا أن الطفلة لم تخطف، وكانت مع والدها وهو على خلاف مع والدتها مما دفع الأخيرة إلى نشر القصة دون التأكد من الحقيقة، أو ربما لمحاولة التشهير بالوالد.

♦ مواقع التواصل ساهمت في تفجير العشرات من القضايا ولفتت الأنظار إلى الكثير من حالات الغبن، وأجبرت بعض الجهات الرسمية على التعامل بجدية مع هذه القضايا

ويدفع “جنون الترند” الكثير من الباحثين عن الشهرة السريعة والمكسب السهل إلى فبركة فيديوهات غير حقيقية، مثلما فعل عامل نظافة شاب حين ظهر في فيديو وهو يتعرض لمعاملة سيئة من عمال أحد محال الكشري الشهيرة بسبب ملابسه الرثة، وانتشر الفيديو على نطاق واسع ووفر لعامل النظافة تعاطفا واسعا، واستضافته العديد من البرامج التلفزيونية، وتلقى عروضا للتمثيل وتقديم برامج إذاعية، لكن كشفت الشرطة بعد ذلك أنه مطلوب للعدالة في عدة تهم، منها القتل الخطأ والتبديد وقامت بالقبض عليه لتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة بحقه.

ولعل من أخطر نتائج انتشار النماذج المزيفة، التشهير بأشخاص دون تحري الحقيقة أو سماع وجهة النظر المقابلة لتلك التي نشرت على مواقع التواصل، والتسرع في إقامة محاكم شعبية يتم فيها الحكم على البعض قبل معرفة الحقيقة الكاملة، مع كل ما يترتب على ذلك من تعرض المحكوم عليه للتنمر والعزل المجتمعي هو وأسرته، حتى لو اكتشفت براءته لاحقا كما حدث مع المدرس المتحرش بالمنصورة، شمال القاهرة.

وانتشر فيديو على فيسبوك منذ فترة يتهم معلما بمدرسة ثانوية في محافظة الدقهلية، في شمال مصر، بالتحرش بطالبة داخل الفصل الدراسي، وتداول رواد فيسبوك الفيديو على نطاق واسع، وأطلقت حملات غضب تجاه المعلم غير الأمين على طالباته، ما دفع إدارة المدرسة إلى فصله وتحويله إلى النيابة العامة للتحقيق معه بتهمة التحرش، ورغم أن التحقيقات كشفت أن الفيديو “مفبرك” أي غير صحيح، ولم يتحرش بالطالبة، لكن سبق السيف العزل، كما يقولون، وتعرض المدرس لإدانة مجتمعية ظالمة دمرت حياته المهنية والشخصية.

ومن عيوب النشر بلا ضوابط التسبب في تضرر أصحاب المشاكل الحقيقية، لأن تكرار عرض حالات مزيفة يؤدي إلى تراجع تفاعل الناس مع مشاكل مواقع التواصل بشكل عام، ما يؤدي إلى تراجع تأثيرها على الجهات الرسمية ودفعها إلى التحرك من أجل مساعدة ضحايا تلك المشاكل.

5