تونس ومتلازمة حالة الطوارئ المائية

الإدماج في قطاع المياه يعد أمرا بالغ الأهمية لضمان الوصول العادل إلى الموارد وتحسين قدرة المجتمعات الحضرية والقروية على الصمود مع تعزيز الإدارة المستدامة ومن ضمنها المياه.
الخميس 2025/01/30
وأنت أيها التونسي، كيف تنظر إلى هذا الوضع

الأمطار الأخيرة في تونس جلبت الراحة للمزارعين وأحيت الآمال في موسم زراعي أفضل. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا التعافي النسبي، تظل معدلات ملء السدود غير كافية، حيث لا تزال تحتاج حتى تمتلئ بالكامل إلى ثلثي مواردها الحالية، ما يبقي على بعض عدم اليقين بشأن إدارة المياه للري.

وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع سياسات الدولة، فإن الاستعداد للمستقبل يجب أن يكون بلا توقف كوننا وسط حرب مائية. قد يُفسر قرار الإبقاء على تدابير التقشف، وخاصة وقف الري من السدود، بالإدارة الحكيمة للموارد على الأقل على المدى القريب. تريد السلطات تجنب الهدر وتوقع فترات محتملة من الجفاف الطويل مع تزايد صعوبة التنبؤ بالظروف الجوية.

هذه جزئية صغيرة من إستراتيجية طويلة نحاول رؤية كيف سيجسدها المسؤولون في الواقع. حتى الآن ما نلاحظه فعليا يؤكد أن تونس تعاني من متلازمة حالة الطوارئ المائية.. ولأجل غير مسمى.

◄ حتى يتمكن الفلاحون، ليس فقط من البقاء، بل وللازدهار في أعمالهم في مواجهة تحديات المياه، ثمة حاجة إلى نهج شامل يجمع بين إدارة الموارد الطبيعية والابتكار التكنولوجي والتغيير السلوكي على المدى الطويل

من المهم الأخذ بعين الاعتبار أن نسبة امتلاء السدود وفق آخر التحديثات الرسمية بلغت 31.5 في المئة فقط، وبالتالي هي منخفضة مقارنة بالاحتياجات الفعلية، قياسا بما كانت عليه، مثلا، في عام 2019 حين بلغت 80.6 في المئة. فأيّ قرار من قبل وزارة الزراعة بزيادة إجراءات التقشف التي بدأته في 2024 يعتمد على تقييم مستمر للمخزون المائي. وهذا يعني أن ترشيد الاستهلاك يجب أن يبقى أولوية سواء للفلاحين أو المواطنين بشكل عام.

قد يكون التقشف في استخدام المياه أحد الدوافع في أن يكون هذا النمط عادة دائمة حتى وقت الوفرة. ويتضمن ذلك إدارة أكثر عقلانية للموارد المتاحة، مع اعتماد تقنيات زراعية أكثر كفاءة في استخدام المياه مثل الري بالتنقيط، وزراعة المحاصيل المقاومة للجفاف، وما إلى ذلك، فضلا عن زيادة الوعي بأهمية الحفاظ على الموارد الطبيعية.

وفي حين أن شريحة من التونسيين لا تعاني من انقطاعات في الإمدادات لسبب أو لآخر، فإنه بالنسبة إلى المزارعين، لا تزال حالة الضبابية قائمة، وسيعتمد رفع القيود على كيفية تطور الوضع في الأسابيع القليلة المقبلة، لكن التحدي لا يزال قائما في التكيف مع البيئة المتغيرة باستمرار.

لنقرّب الصورة أكثر بالأرقام سنجد أن النشاط الفلاحي يستهلك لوحده 77 في المئة تقريبا من المياه السطحية سنويا، وهي نسبة كبيرة إذا ما قارناها بنحو 13 في المئة تذهب للشرب و8 في المئة للقطاع الصناعي، بينما السياحة لا تستهلك سوى اثنين في المئة. مع العلم أن كمية المياه التي يحتاجها المزارعون تستعمل لري ثمانية في المئة من الأراضي الصالحة للإنتاج، أي بحدود 450 ألف هكتار، ما يعني أن باقي المساحة يعتمد على الأمطار.

عملية التقنين كان لها تأثير كبير على الفلاحين، وخاصة في المناطق الشمالية الغربية، حيث الموارد المائية شحيحة. من ناحية، ساعدت هذه القيود في الحفاظ على المخزونات لمنع النقص، ولكنها فرضت ضغوطا عليهم، من ناحية أخرى، فاندفعوا للتكيف مع أساليب الري الجديدة أو اللجوء إلى مصادر أكثر كلفة، كالمياه الجوفية، والتي تتعرض عمليا في هذا الوضع إلى الاستنزاف.

من حيث الأثر الاقتصادي، ربما كانت المحاصيل أقل وفرة في مناطق معينة، بسبب نقص الري أو استخدام تقنيات أكثر كلفة. وربما أثر هذا على الربحية، وخاصة بالنسبة إلى المحاصيل ذات الاحتياجات العالية للمياه. ولو كنت مزارعا لانتفضت مثلما ينتفض المزارعون دائما بسبب القيود التي يعانون منها منذ سنوات ضمن حلقة مفرغة تتعلق بالأساس في فقدان إستراتيجية حكومية فعالة وذات كفاءة.

◄ أيّ قرار من قبل وزارة الزراعة بزيادة إجراءات التقشف التي بدأته في 2024 يعتمد على تقييم مستمر للمخزون المائي. وهذا يعني أن ترشيد الاستهلاك يجب أن يبقى أولوية سواء للفلاحين أو المواطنين بشكل عام

الإدماج في قطاع المياه يعد أمرا بالغ الأهمية لضمان الوصول العادل إلى الموارد، وتحسين قدرة المجتمعات الحضرية والقروية على الصمود مع تعزيز الإدارة المستدامة. يتضمن كسر الحواجز معالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمنع الاستفادة على قدم المساواة من خدمات المياه، أو المشاركة في عمليات صنع القرار، أو الحصول على فرصة للتأثير على حوكمة المياه.

في المحصلة، رغم أن تغير المناخ فاقم من حدة الصعوبات، لكن ندرة المياه يمكن أن تعزى إلى السياسات العامة والقرارات الاقتصادية بشكل رئيسي. فالحاجة الملحة اليوم، تتمحور حول بناء إرادة قوية وعزيمة أكبر لتنفيذ برامج طموحة تواجه بها السلطات مشكلة ندرة المياه المتوقعة في الأعوام المقبلة، رغم ما يمثله بناء محطات تحلية مياه البحر من دور مهم لتحقيق الأمن المائي، خاصة مع التقارير الدولية التي تشير إلى أرقام مفزعة تعكس المخاطر القادمة جراء الاحتباس الحراري.

ولكن حتى يتمكن الفلاحون، ليس فقط من البقاء، بل وللازدهار في أعمالهم في مواجهة تحديات المياه، ثمة حاجة إلى نهج شامل يجمع بين إدارة الموارد الطبيعية والابتكار التكنولوجي والتغيير السلوكي على المدى الطويل. يمكن تحقيق ذلك بالمشاورات العامة، وبين لجان إدارة المياه المحلية والدولية (وزارة الزراعة وهياكلها، شركة توزيع المياه (صوناد)، البنك الدولي، ومنظمات دولية معنية بالمناخ..)، وتطوير السياسات التعاونية التي تأخذ في الاعتبار احتياجات جميع الفئات.

وأنت أيها التونسي، كيف تنظر إلى هذا الوضع، وإلى المستقبل؟ ما هي التغييرات التي ترغب في رؤيتها لإدارة التحديات طويلة الأمد بشكل أفضل؟ أكيد رأيك مفيد حتى تتناغم إجراءات الدولة مع متطلبات الناس وتطلعاتهم لكي يقاوم الجميع وبيد واحدة أزمة وجودية، وبأقل قدر ممكن من العبثية في إهدار الموارد ليس لمن يعيشون اليوم، بل للأجيال المقبلة.

9