تونس ومعركة تهدئة جبهة الآفات الزراعية

التحديات التي تواجه وزارة الفلاحة في تونس كثيرة ومتنوعة. وإذا كانت مكافحة الجفاف “أمّ المعارك الوجودية” اليوم، فإن التصدي للآفات المنجرّة عن هذه المشكلة العالمية، مثل الحشرة القرمزية، التي تهدد ثمرة التين الشوكي أو كما نسميه بـ”سلطان الغلة (الفاكهة)” تبرز كأمور ذات أولوية عالية. لكن هذا لا شيء أمام تواتر الآفات الأخرى أيضا، مثل دودة الزيتون والحشرة القشرية، والتي قد تكبد الدولة خسائر غذائية قبل المادية.
تحركات الوزارة المضنية منذ أشهر في هذه الاتجاهات تعكس جدية الوزير عبدالمنعم بلعاتي، وهو رجل عسكري، أظهر جرأة منذ توليه منصبه في التحرك دون كلل لحل المشاكل المتعلقة بالزراعة ونقص المياه، وكل ما يرتبط بهما ميدانيا، مفضلا الابتعاد عن الحلول النمطية السائدة من المكاتب واللقاءات، مع مراعاة العمل بشكل مباشر مع المندوبيات الجهوية للفلاحة.
ثمة اقتناع اليوم بين المسؤولين بأن العمل المنسق والمتكامل على المستويين المركزي وفي المناطق سيكون أكثر من مجرد نشاط روتيني، لضمان فاعلية الإجراءات والتدابير المتخذة لمواجهة هذه المشاكل، وهو ينبع عن إصرار بأن أيّ تأخير في تقديم العلاجات اللازمة، وترك الحبل على الغارب سيسبب كوراث. لا تريد الحكومة أو الوزارة المعنية إعادة ذلك التبرير الفج حول الحمام والقمح!
◄ المعركة لن تقف عند "القرمزية"، فضرر أشجار الزيتون من دودة "باكتروسيريا أوليا" التي تؤدي إلى تلف الثمار بفعل تخريش الجلد وإدخال البكتيريا والفطريات التي تسبب التعفن
تتذكرون جيدا تبريرات وزير الفلاحة الأسبق سمير بالطيب حول انتقاد قصور وزارته في تجميع المحصول بأن القمح أكله الحمام.
على أيّ حال، كل التحديات الزراعية غالبا ما تتطلب إستراتيجيات شاملة وتعاونا مستمرا بين الإدارة المركزية والإدارات المحلية، بالإضافة إلى التعاون مع القطاع الخاص والمجتمع المدني مع التسلح بالحذر من التشتت. فبالتعاون والتنسيق الجيدين، يمكن تعزيز فاعلية الجهود المبذولة والتصدي للتحديات المعقدة، التي تواجه الزراعة، ولأن مواجهة الآفات بشكل مبكر يعد أمرا حاسما لضمان النجاح والفاعلية في الحد من الخسائر وتحقيق الاستدامة في القطاع.
لا يمثل “سلطان الغلة” مصدر دخل للمزارعين فحسب، بل يتم استهلاكه أيضا بأشكال مختلفة، مثل الطازج أو المجفف أو المعالج في المنتجات الغذائية ومستحضرات التجميل والمستحضرات الصيدلانية. وقد دفع تهديد الحشرة القرمزية، التي تعيث فسادا في نباتات الصبار وطالت عدة ولايات، وزارة الفلاحة إلى التحرك بسرعة منذ يناير الماضي لحماية هذا القطاع متعدد الاستخدامات.
لقد شرعت تونس في إيجاد حل عضوي لمكافحة هذه الحشرة المزعجة، وتم إدخال 100 خنفساء من فصيلة “هايبراسبيس تريفوركاتا” المعروفة بقدرتها على التغذي على حشرات البق الدقيقي، بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة (فاو). ولمواجهة هذا التهديد المتزايد، خصصت وزارة الفلاحة بالفعل 11 مليون دينار (3.5 مليون دولار).
ولكن في بعض المناطق، خرج الوضع عن السيطرة وفقا للمزارعين الذين يرون أن محاصيلهم تضررت بشدة. قد تبدو الأمور خارجة عن السيطرة لأن مكافحة الآفات في مثل هكذا أزمة يتطلب الصبر قبل الدعم والتمويلات.
استنادا على الأدلة التي طورتها فاو وعلماؤها، فإن مكافحة حشرة الصبار عبر الخنافس المعروفة بالمكافحة البيولوجية، تتم من خلال عملية محددة جيدا تتضمن مجموعة من المراحل يطول شرحها. من باب المعرفة فإن بعض أنواع الخنافس هي عبارة عن مفترسات طبيعية. ولكن الأنواع الأكثر استخداما تشمل “الدعسوقة الأسترالية”، حيث يتم اختيارها لفعاليتها في تفتيت البق الدقيقي دون التسبب في ضرر للنباتات.
◄ ثمة اقتناع اليوم بين المسؤولين بأن العمل المنسق والمتكامل على المستويين المركزي وفي المناطق سيكون أكثر من مجرد نشاط روتيني، لضمان فاعلية الإجراءات والتدابير المتخذة لمواجهة هذه المشاكل
من الضروري بعد القيام بهذا التحرك، تقييم الوضع أكثر وتحديد الأولويات التالية سريعا لتفادي الأسوأ. وهذا يتطلب مراجعة البيانات والمعلومات المتاحة واستشارة الخبراء. كما أن تطوير إستراتيجية متكاملة أمر لا يقل أهمية بناء على التقييمات، التي تتضمن مجموعة من الإجراءات الوقائية والرد السريع مع توظيف الزراعة المستدامة والمبادئ البيولوجية لمكافحة الآفات.
إن استمرارية التعاون بين كافة الجهات المختلفة يعد جدار الصد الأول أمام توسع محتمل للمشكلة، حيث ينبغي تنسيق الجهود بين الوزارات ذات الصلة مثل الفلاحة والبيئة الهياكل المرتبطة بهما، بالإضافة إلى التعاون مع الجهات المحلية والباحثين والمزارعين وربما طلب الدعم من الشركاء الإقليميين والدوليين. وهذا التعاون سيسهم بلا شك في تبادل المعلومات والخبرات وضمان الاستعداد المبكر لأيّ أزمة طارئة مستقبلا.
لا يخفى على أحد أن تقييم خسائر الآفات الزراعية المحتملة يعتبر خطوة مهمة لتحديد الخطط الوقائية والتصدي للمشاكل المحتملة في المزروعات. فلا بد أن تبدأ العملية بالمراجعة النظرية للآفات الزراعية المحتملة التي قد تؤثر على المحاصيل المحلية. تمكن الاستعانة بالمصادر العلمية والتقارير الزراعية للحصول على بيانات دقيقة حول الآفات التي تنتشر في حوض المتوسط.
تأكدوا أن المعركة لن تقف عند “القرمزية”، فضرر أشجار الزيتون من دودة “باكتروسيريا أوليا” التي تؤدي إلى تلف الثمار بفعل تخريش الجلد وإدخال البكتيريا والفطريات التي تسبب التعفن، سيقلل الإنتاجية ويؤثر سلبا على جودة الزيت، وقد يكون أكثر وقعا باعتباره أحد أهم المحاصيل الإستراتيجية المولدة للدولارات.
لا تدخروا جهدا أيها المسؤولون، فأهمية فتح جبهة سحق الآفات الزراعية تضاهي أهمية سحق الآفات الاقتصادية والسياسية والقضائية والمالية التي نخرت الدولة لسنوات.