تونس واستعادة الثقة المفقودة

لن أتطرق إلى أسباب تراجع الثقة بين المؤسسات الرسمية في تونس والتونسيين خلال السنوات الأخيرة، فهي معروفة وسبق وأن تم التعريج عليها ورصدها في الكثير من المناسبات. ما يهمّنا اليوم هو البحث عن كيفية استعادة هذه الثقة وإعادة ترميم الصورة السلبية المترسّخة لجعل الناس يتلمسون الفعل الحقيقي للسلطة ويقتنعون بمدى جديتها.
قطاف ثمار الحملة الأخيرة التي شنتها السلطات على النافذين والفاسدين قد يتطلب وقتا، وهذا مفهوم. فإصلاح خراب أكثر من عشر سنوات ليس نزهة، لكنه يعكس في جانب كبير منه عودة هيبة الدولة، ليس فقط لإثبات أنها تطبق القانون حاملة شعار “التآمر على أمن الدولة”، وإنما لتمرير رسائل الطمأنينة بين التونسيين الذين ضاقوا ذرعا من سياسيين هواة غابت عنهم الوطنية.
ثمة مشكلات تفصيلية كثيرة يتوجب تفكيكها، تبدأ بقضية الأسعار وتوفير الأدوية والخبز والمستلزمات الضرورية الأخرى، مع تقديم الخدمات العامة بشكل أفضل مما هي عليه اليوم، وجعل القطاعات الحيوية كالنقل العام تعمل بانضباط، والبلديات تؤدي دورها المنوط بعهدتها.
لا يمكن تجاهل أن تراجع مستوى الخدمات العامة في جميع المرافق المختلفة رغم مخصصات الإنفاق في الميزانيات السنوية، فاقم من حدة تذمّر التونسيين، لاسيما في قطاعات الصحة والنقل والتعليم، خاصة إذا ما كان اتحاد الشغل طرفا فيها بداعي حماية المكتسبات، فهناك هبوط عام يشعر به الناس يرتبط أشد ارتباط بأمنهم المعيشي اليومي.
◙ سيادة القانون تعني أن السياسيين والمواطنين لديهم نفس الحقوق والواجبات، وأن التعيينات في جسم الدولة لا تتم إلا وفق معايير الكفاءة والإنتاجية بغض النظر عن توزيعاتهم الجغرافية
النهوض بالخدمات الأساسية ورفع مستوياتها وتوفير أسباب الثقة في التعاملات وكبح التضخم وضبط الأسواق، يُفترض أنها أولوية حكومية يجب أن تتصدر أي برنامج تنفيذي، لأنه في الأصل واجبها، حتى لو تشاركت مع القطاع الخاص. وما على الرافضين لركوب هذه الموجة سوى التوقف عن تعطيل المسار، فلا أحد من مصلحته إغراق القارب في ظل الجبهات المفتوحة على الفساد.
هذا يتطلب حزما أكبر، مع الوضع في عين الاعتبار عامل الزمن لأنه سيكون المحرار الذي سيقيس به الناس مسيرة القطع مع الماضي التي طال انتظارها، بعدما عانوا من ويلات أزمة جعلت الوضع يقسو بشدة على الجميع حتى على الدولة نفسها.
لا يمكن الحديث عن الأجهزة الحكومية وحدها للقيام بهذه المهمة الشاقة، وإنما منظومة العمل الرسمي بمؤسساتها التشريعية والقضائية وأيضا القطاع العام بكافة مستوياته. وما يلاحظ فعليا أن اللقاءات الماراثونية الأخيرة للرئيس قيس سعيد بالوزراء والمسؤولين وزياراته الميدانية للاقتراب أكثر من المواطنين تعطي انطباعا بأن الدولة تعيد ترميم الجدار المفقود مع الشارع.
ولكي تنجح الدولة في مسعاها، فإن الأمر قد لا يحتاج سوى إلى العمل على نقاط جوهرية في العلاقة بين الطرفين، لعل أبرزها تعزيز مبدأ سيادة القانون، وهو ما ينادي به الرئيس سعيّد في كل ظهور رسمي أو إعلامي ويسعى لترسيخه، ليس في ما يتعلق بالتقاضي بين الأفراد فقط، وإنما بنشر هذه الثقافة لتكون هوية مجتمعية لا نقاش فيها، وأن يأخذ كل ذي حق حقه مع التفعيل الجدي لسياسة المحاسبة.
إن استعادة الدولة بمفهومها العام لثقة التونسيين تتطلب خطابا سياسيا له انعكاس فوري على الواقع، وهذا لا يكون إلا من خلال تطبيق القانون على الجميع مهما كان وزنهم، وأيضا تعزيز الشفافية والنزاهة في الخطط والإستراتيجيات والبرامج الإصلاحية قبل النظر إلى سلوك المواطن ومدى قناعاته بها أم لا.
سيكون المدخل الرئيسي لذلك هو إرساء نظام حكم رشيد يعتمد ضوابط متينة تواكب المعايير الدولية المستلهمة من مبادئ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية حتى تكون ذات مصداقية لأن السياسي في الأصل خادم للمواطنين داخل الدولة، لكن التشريعات لا تكون ذات فائدة إذا لم تنفذ على أرض الواقع بالشكل المطلوب.
قد لا يعرف الكثيرون ما الغاية من الحوكمة، لكن مفهومها يعكس مضمونها، فهي ببساطة تنظيم رقابة وإدارة الشأن العام بحيث لا يمكن من ظهور بيئة ملائمة للفساد، وبالتالي تشكل مختلف الإجراءات والقوانين وهيكلها التنظيمي، الإطار المرجعي للاستمرارية.
سيكسب نظام الحوكمة في تونس الكثير من الجهد والوقت حينما يصبح أكثر شفافية، إذ بوجود قواعد جيدة الإعداد والصياغة ومتناسقة مع المعايير الدولية، الأكثر صرامة، سيكون بالإمكان ضمان الثقة. ولذلك فإن الحكومة أمامها عمل كثير حتى ترسخ هذه الثقافة التي لم تكن يوما ضمن نواميسها بدليل ارتفاع حمى المؤشرات السلبية.
يفترض أن الكل تحت مظلة القانون سواسية. من هذا المنطلق يمكن فعليا محاربة كافة أشكال المحسوبية والرشاوى والوساطات في جهاز الدولة الإداري، ويكون ذلك بتفعيل قوي لمبدأ المحاسبة والتقييم والمساءلة. حتى شركات القطاع العام ورغم ظروفها المالية الصعبة، فإن عليها معاضدة جهود الدولة في هذا الاتجاه.
◙ ثمة مشكلات تفصيلية كثيرة يتوجب تفكيكها، تبدأ بقضية الأسعار وتوفير الأدوية والخبز والمستلزمات الضرورية الأخرى، مع تقديم الخدمات العامة بشكل أفضل مما هي عليه اليوم
سيادة القانون تعني أن السياسيين والمواطنين لديهم نفس الحقوق والواجبات، وأن التعيينات في جسم الدولة لا تتم إلا وفق معايير الكفاءة والإنتاجية بغض النظر عن توزيعاتهم الجغرافية. فالأساس هو الكفاءة لبناء مسار الخروج من عباءة الدولة الريعية، ومن كافة أشكال الفساد الإداري ومن نظام المنح بغير وجه حق وتوجيه موارد الدولة إلى مستحقيها الحقيقيين فقط لا غير.
كل ذلك يتطلب جهدا رسميا قويا، وهذا ما يقوم به فعليا أعلى هرم في السلطة مدعوما بإرادة تنفيذية لا تقبل المهادنة، ولا الخضوع أو المساومات لصفقات سياسية كانت السمة الطاغية للحكومات المتعاقبة منذ 2011، والتي أدت إلى هدر في المال العام وتوجيه موارد الدولة المحدودة أصلا في غير محلها.
الخطاب الموحّد للدولة والتطبيق الفعلي على الأرض يعنيان وضوحا في الرؤية وقوة في الحضور. فقد استنزفت خطابات الأحزاب قبل 25 يوليو منسوب الثقة بين المؤسسات الرسمية بداعي علوية الدستور والتونسيين الذين سئموا من خطابات المسؤولين النظرية البعيدة عن واقعهم العملي، والأمر يشمل من هم في السلطة التشريعية وقطاع الإعلام، فشتّان بين ما يتحدثون حوله أمام وسائل الإعلام وبين ما يدور في كواليس الاجتماعات المغلقة بينهم. وهذا سبب رئيسي وأساسي في تراجع الثقة.
معلوم أنه ليس سهلا استعادة الثقة في الدولة بين عشية وضحاها، فما حدث خلال الأعوام الماضية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، كان كفيلا بهدم ذلك الجدار. وهنا يكمن التحدي وذلك عبر بناء منظومة قوية على أسس واقعية عملية يتلمس آثارها التونسيون، وحينها فقط سيكون التقييم بشأن تركيز دولة القانون والمؤسسات والمواطن ذا جدوى.