الرقابة الشعبية والفن في مصر: إلى الوراء در

"هذا على الحساب قبل قراءة الكتاب".. قصة إلهام شاهين مع "المومس الفاضلة".
الأربعاء 2021/11/17
إلهام شاهين متهمة بالترويج للعهر والفسق لمجرّد {عنوان}

الرقابة الاجتماعية في مصر تشدّد قبضتها على الفن من خلال ما يظهر من اتهامات بالإباحية، يكيلها ناشطون مندسّون من الجهلة على مواقع التواصل لفنانين يحاولون استعادة الألق الذي كان سائدا في خمسينات القرن الماضي وستيناته، ممّا ينذر بتضييق الخناق على الفن في عاصمة الفن، وهو ما حصل مع الفنانتين إلهام شاهين وسميحة أيوب، ووصل إلى قبة البرلمان.

“هذا على الحساب قبل قراءة الكتاب” جملة تُنسب لأحد شيوخ جامع الزيتونة في تونس بداية ثلاثينات القرن الماضي، حين هاجم، وبشكل لاذع، كتاب المصلح الاجتماعي المعروف الطاهر الحداد “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” قبل قراءته، حتى أنه أفرد لتلك الحملة المسعورة وغير المبرّرة كتابا حمل عنوانا كيديّا وهو “الحداد على امرأة الحدّاد”.

هذا ما تذكّرنا به الحملة غير المسبوقة التي تتعرّض لها هذه الأيام على مواقع التواصل الاجتماعي، الفنانة المصرية إلهام شاهين، حين أعلنت نيتها العودة إلى خشبات المسارح برواية “المومس الفاضلة” للكاتب الفرنسي جان بول سارتر، وفي إخراج لسميحة أيوب، التي لعبت الدور في ستينات القرن الماضي.

رواية جان بول سارتر لا تغوص في عالم البغاء، بقدر ما تطرح موضوع العنصرية وفكرة الالتفاف على القيم الإنسانية باسم القانون

الأخذ على الشبهة

هكذا، ولمجرد إعلان الفنانة المصرية لعب هذا الدور الذي يبدو أنه يحمل طابعا استفزازيا لدى بعضهم في العنوان “المومس الفاضلة”، حتى قامت الدنيا ولم تقعد، علما أن رواية الكاتب الوجودي الفرنسي لا تغوص في عالم البغاء، بقدر ما تطرح موضوع العنصرية وفكرة الالتفاف على القيم الإنسانية باسم القانون.

وتدور أحداث رواية “المومس الفاضلة” داخل قطار، حيث يعتدي رجل أبيض البشرة على إحدى فتيات الليل، ويتمّ توجيه الاتهام إلى راكب أسود البشرة، الذي بدوره يهرب من الشرطة.

تتعرّض العاهرة إلى ضغط من والد الرجل الأبيض وهو سيناتور بمجلس النواب الأميركي، ويجبرها على الشهادة في المحكمة ضدّ الرجل الأسود الذي لا نعرف اسمه في أحداث الرواية ويتم الإشارة إليه بـ”الزنجي”.

وللغالبية الساحقة من الذين لم يقرؤوا “المومس الفاضلة” واكتفوا بتشهير شوكاتهم وسنّ مخالبهم على مواقع التواصل الاجتماعي في وجه هذا المشروع المسرحي الذي ما زال قيد الحديث فيه، فإن رواية سارتر، تنطلق ممّا عرف بقضية “فتية سكوتسبورو” في الولايات المتحدة عام 1931 كحدث بارز استوحى منه الكاتب المسرحية، عندما اتهمت سيدتان أميركيتان تسعة مراهقين من أصول أفريقية بالاغتصاب وتمّ الحكم على ثمانية منهم بعقوبات تتراوح بين الإعدام والسجن لمدة خمس وسبعين عاما، دون محاكمات عادلة أو توقيع كشف طبي على السيدتين للتأكّد من ارتكابهما للواقعة.

ولسائل أن يسأل بعد قراءة المسرحية، ومعرفة حيثيات كتابتها، وأمام هذا الهجوم السافر على الفنانة المصرية المعروفة بجرأتها ومناصرتها لقضايا حقوقية كثيرة: أين “الترويج للعهر والفسق والاعتداء على الأخلاق الحميدة” في هذه الرواية التي كتبها صاحبها أصلا للدفاع عن الأخلاق الحميدة ومناصرة القضايا العادلة؟

يبدو أن “الأخذ على الشبهة” هو منهج هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على قيم المجتمع ثم إن المصيبة الأكبر تتمثل في كونهم لا يقرؤون، ويُحاججون لمجرّد أن عبارة مثل “المومس الفاضلة” لا تروق لأمزجتهم، فكيف يلتقي العهر بالفضيلة في نظرهم القاصر وخيالهم المريض.

ثمة مفردات وتراكيب تحرّك الغرائز لدى هؤلاء الصيادين في المياه العكرة، وكل إناء بما فيه ينضح كما يقول المثل السائد، ذلك أن الفنانة المصرية التي تنوي العودة إلى المسرح بـ”المومس الفاضلة” للفرنسي جان بول سارتر، بعد أن هجرته منذ اثنين وعشرين عاما إثر آخر أعمالها “رجل في المصيدة” للإنجليزية أجاثا كريستي، قد أوقعت هؤلاء “الغريزيين” في المصيدة من حيث لا تقصد، إذ كشفت جهالتهم ومحدودية تفكيرهم لمجرد سماعهم بعنوان المسرحية “المومس الفاضلة”.

الغالبية الساحقة لم يقرؤوا "المومس الفاضلة" واكتفوا بسنّ مخالبهم على مواقع التواصل ضد مشروع المسرحية

والرواية أثارت جدلا، فعلا، حين تمّ عرضها في مسارح الولايات المتحدة، إذ وقع اتهام جان بول سارتر بمعادة أميركا.. وليس “الترويج للعهر وخلط الفضيلة بالرذيلة” كما يدّعي كل “شاهد ما شافش حاجة” على صفحات الفيسبوك والجرائد الصفراء، وفي زوايا وحلقات التكفيريين الضيقة.

والرواية أثارت أيضا جدلا نقديا -وليس أخلاقيا طبعا- حين كشفت الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار، التي ارتبطت عاطفيا بجان بول سارتر لعدة سنوات، أنه كتب الرواية خلال بضعة أيام، لحاجته لوجود عرض في إحدى ليالي العرض بمسرحه، ومن ذلك عاب عليه النقاد استعجاله في كتابة الشخصيات ومعالجة الأحداث والوقائع.

وكذلك لاقى الفيلم الفرنسي الذي تناول الرواية وحمل العنوان ذاته بعض النقد لأنه جنح نحو شيء من الكوميديا من خلال شخصية الممثل الفرنسي لوي دي فيناس وباربرا لاج.. وليس لأنه تحدّث عن مومس فاضلة.

تفريخ الرجعية

سميحة أيوب: نحن شعب نتقهقر إلى الوراء بصرف النظر عن التقدّم العلمي

“المومس الفاضلة” عمل فني أسال الكثير من الحبر النقدي في تلك الفترة، وليس الكثير من اللغو والافتراء كما يحدث هذه الأيام على صفحات التواصل الاجتماعي، إذ كتب سارتر، وقتها، نهاية جديدة ملائمة للمسرحية التي عرضت في الاتحاد السوفييتي مع الفيلم السينمائي الذي صدر في عام 1952، وفي هذه النهاية الجديدة ظهرت نقطة فاصلة في العنصرية والتمييز الطبقي.

وقال الكاتب في تعليقه المتعلق بالتعديلات “أعلم أن الكثير من طبقة الشباب العاملة شاهد هذه المسرحية وشعر بخيبة أمل بسبب نهايتها بهذا الشكل الحزين، وأعلم أيضا أن الشيء الوحيد الذي يدعو إلى التفاؤل هو احتياج الجمهور الذي عليه التعلّق بالحياة”، كما انتقد القرار البطولي للشخصية الرئيسية والنهاية السعيدة للمسرحية كون المسرحية تعكس حقيقة العنصرية في والولايات المتحدة عام 1930.

كان ذلك في خمسينات وستينات القرن الماضي التي كان فيها الفن في مصر يشبه نظيره في فرنسا والعالم المتقدّم، حين لم تكن هذه الأصوات الناشزة موجودة، وكان الرقي في الذائقة هو المعيار والفيصل.

سميحة أيوب الملقبة بـ”سيدة المسرح العربي” كانت قد لعبت بطولة “المومس الفاضلة” أواخر خمسينات القرن الماضي، واستقبل الجميع العرض بمنتهى الترحاب، استاءت كثيرا من هذا الجدل المشتعل حول عنوان مسرحية لم يقرأها جميع من وصفها بالترويج للفن الإباحي، على شاكلة النائب البرلماني الذي تقدّم بطلب إحاطة لرئيس الوزراء ووزيرة الثقافة، معتبرا أن هذه النوعية من الأعمال “لا تناسبنا”.

وفي مقابلة تلفزيونية تحدثّت الفنانة المسرحية المخضرمة عمّا جرى، لتتساءل في البداية عمّا إذا كان النائب الذي تقدّم بطلب الإحاطة قرأ النص المسرحي أم لا، وعلقت قائلة “عيب والله.. عيب أن واحدا في البرلمان ويعمل عشوائيات”. وأضافت “نحن شعب نتقهقر إلى الوراء بصرف النظر عن التقدّم العلمي”.

مثل هذه الزوابع التي يفتعلها مثيروها الآن على المنصات الاجتماعية تدقّ أجراس الخطر، وتنذر باقتراب موت المجتمع المدني في بلد كان سباقا للتطوّر والتعامل مع مفردات العصر بمنتهى الرقي والتحضر مثل مصر، خصوصا وأنها تأتي من خلال إحدى أهم “مفردات العصر” وهي الإنترنت والسوشيال ميديا.

يبدو أن الحركات السلفية والإخوانية قد فعلت فعلها في مصر، وفرّخت جيوبا كثيرة في شتى مؤسّسات الدولة والمجتمع، حتى من كان بالأمس محمودا ومستساغا، صار اليوم مذموما ومرفوضا، وكأن عاصمة الفن العربي تعود القهقرى.. وهو أمر في غاية الخطورة وينبغي أن تتداركه كافة الفئات الاجتماعية، وتعالجه الدولة بسنّ القوانين الرادعة لهذا التطاول على الثقافة والفن، وإلاّ فستطول ألسنة وادعاءات أعداء التطوّر لتشمل كافة الفنون المصرية التي كانت بالأمس محل احتفاء، وترحاب شعبي واسع.

"المومس الفاضلة" من حدث فني إلى جدل سياسي
"المومس الفاضلة" من حدث فني إلى جدل سياسي

 

13