رندة فخري تنصب من الألوان والديكوباج "مرافئ" للخلاص

الفنانة المصرية تواصل عزفها على الصمت العامر بالخلق المتجدّد.
الخميس 2021/11/11
غوص جمالي في علاقة الإنسان والكائنات المحيطة به

تواصل الفنانة المصرية رندة فخري في معرضها الجديد "مرافئ" المقام حاليا في غاليري "النيل" بالقاهرة عزفها على فكرة التواصل بين البشر والكائنات بجميع أنواعها عبر أكثر من عشرين لوحة متباينة الأحجام نفّذتها الفنانة بالألوان الزيتية مع الديكوباج، منتصرة للصمت العامر بالحركة والسكون الممتلئ بالخلق المتجدّد.

"مرافئ" هو عنوان المعرض الفردي الجديد للفنانة التشكيلية المصرية رندة فخري المقام حاليا في غاليري “النيل” في العاصمة المصرية القاهرة، وجاء هذا المعرض بعد انتظار طويل بسبب انتشار وباء كوفيد - 19.

قدّمت الفنانة المصرية في المعرض مجموعة من اللوحات المختلفة الأحجام والمشغولة بالألوان الزيتية و”الديكوباج” الذي هو تقنية فنية يتم فيها استخدام قطع من الورق في اللوحات الفنية.

تصرّح فخري بأن مضمون اللوحات هو فكرة التواصل بين البشر والكائنات جميعها عبر معرض حمل عنوان “مرافئ”، وهو عنوان يليق بهذا المعرض، غير أنه يحضر ليجلب معه تساؤلات هي من ناحية حول دور المُشاهد في قراءة معاني لوحاتها، ومن ناحية ثانية يطرح تساؤلات عديدة حول غرائبية تلك المرافئ.

ممّا قالته الفنانة بشأن معرضها، في ما يشبه مخاطبة الذات ومحاولة سبر عوالمها وكأنها تخصّ شخصا آخر غيرها، نختار هذا المقتطف: “المرفأ هو الميناء.. فيه تتلاقى العيون والقلوب، مودّعة أو مُستقبلة، قد يكون اللقاء الأول وقد يكون الأخير".

على الرغم من اعتبار الفنانة “مرافئها” همزات وصل كثيرة الاحتمالات، لأن باستطاعتها أن تشمل الصادم والمتعاطف، والمُماثل والمختلف، إلاّ أن الذي يرى نظرات شخوصها التائهة والمُتسائلة، أكثر بكثير ممّا هي حزينة، ويتأمّل في عيونها العميقة كآبار لا قرار لها ولا بياض يُحيط بالعديد منها سيدرك أن هذه المرافئ تعقد في معظم لوحات الفنانة صلات مع من هم متقاربون ومتواطئون فقط، وهم بالرغم من اختلافهم متشابهون جدا.

أسئلة مُلهمة

شخوص تائهة ومُتسائلة عن معنى التواصل
شخوص تائهة ومُتسائلة عن معنى التواصل

وتضيف قائلة “هنا يكون التساؤل عن المصير في كل لوحة، عن ماهية هذا اللقاء وكيفية التعايش رغم الاختلاف الذي يصل أحيانا إلى حد التضاد. هل الأسلم أن يكون الصدام، أو الهجران، أو التباعد، أو الصدّ، أو الانعزال؟".

هنا ربما يتوقّف مُشاهد اللوحات عند رؤية الفنانة لـ”المرافئ” بالمعنى الذي نعرفه لتصبح هذه المرافئ مكان حلول غرائبي وهشّ كما هي حياة الإنسان، حيث تتّصل الكائنات المتشابهة (الخيّرة في معظمها) ببعضها البعض إلى أجل محدّد قبل أن تعود وتتبعثر في عالم قوامه الفساد ومصيره الغربة.

تطرح الفنانة في لوحاتها تلك مفهوما معاصرا لطبيعة العلاقات بين الكائنات. إنها علاقة وطيدة، ولكن لا تدوم. دوامها مِن وفي قصر مدتها. ولا نبالغ إن قلنا بأن رندة فخري تقدّم حالة العبور بين ضفة وأخرى على أنها حيّز حلول يحمل صفات الوقتيّ والهشّ.

المرافئ في لوحاتها هي “مَراسٍ” ترسو فيها النفس مؤقتا وتحلّ دون أن تستقرّ نظرا لأجلها المُسمى على هذه الأرض. ربما لأجل ذلك تلفح لوحات الفنانة نسمات صوفية بالكاد تظهر، ولكن أثرها عميق.

ما علينا إلاّ أن نتأمل في اللوحات التي تظهر فيها امرأة مع مجموعة من البطّ الأبيض وهم يتحلّقون حول البطة السوداء المغايرة بعطف وتأمل، وهي تستريح في راحة يد المرأة التي تلبس جلد يديها وذراعيها كمن يرتدي قفازا، والعكس بالعكس.

نفحات قدريّة

فانتازيا بصرية بواقعية سحرية
فانتازيا بصرية بواقعية سحرية

وما علينا أيضا إلاّ أن نتأمل في لوحة أخرى ظاهرها تناقض بين رجل وامرأة متمثليْن في ديك ودجاجة أمام لعبة شطرنج وداخلها اتزان وعدالة مهما جرت وتدحرجت أو اندحرت الأحجار المُتواجهة على مربعات اللعب الذكيّ، غير أن الملك خلفهما، أي خلف الديك والدجاجة، ذا الملامح العادلة والرقيقة يبسط على مساحة اللوحة جوّا من السكون والتلاقي لطالما عهدناه في لوحات الفنانة فخري.

في مرافئ الفنانة كما في سراديبها -ونستخدم هنا كلمة “سراديب”، وهي من وحي عنوان لأحد أهم معارضها السابقة- يكمن بصمت الرفق بالأشياء، الرفق بالأجواء وبخلفيات اللوحات وبالكائنات والرفق بالنفس أيضا.

وهذا الأخير يتجلى غالبا في لوحاتها بمظاهر الرفق بالكائنات المحيطة.ونذكر أيضا اللوحة التي يبرز فيها رجل مُلتح وعلى رأسه إكليل رقيق من أوراق شجرة الزيتون وبيده أزهار شائكة تشبه تلك المسماة بـ”الخالدة”، لأنها تُبقي على ألوانها وبتائلها بعد أن تجفّ أو تُقطع.

المرافئ في لوحات فخري هي "مَراسٍ" ترسو فيها النفس مؤقتا، دون أن تستقرّ نظرا لأجلها المُسمى على هذه الأرض

ويظهر قنفذ بأشواكه هو أيضا في مقابلة بين الثلاثة: الأزهار، والرجل والقنفذ، في أرجاء لوحة ضيقة مساحاتها الفاصلة بين عنصر وعنصر ليفوح منها عطر أشجار البلوط في غابة كثيفة.

أما من الناحية التقنية فليست التفاصيل التي تدخل إلى لوحاتها من خلال قصاصات “الديكوباج” هي مجرد عناصر دخيلة بداعي التزيين، بل أساسية وممتزجة بشكل لا يمكن إخراجها بصريا من حوض الألوان الزيتية المحيطة والمُغمّسة بها على حد السواء.

يسهل تخيّل الفنانة رندة فخري وهي ترسم شخوصها وكائناتها والأشياء، وعندما تنتهي من وضع الخطوط العريضة المُشكّلة في قلب لوحاتها تبدأ بمساءلة شخوصها واستدراجها في حوار سريّ عن أخبارها وظروفها ومن ثم أسرارها.

وكل ما تستطيع أو استطاعت الحصول عليه من “معلومات” تبدأ به “نحت” غنى شخصياتها وتطوير الفكرة التي وضعتها قبل أن تشرع في الرسم. ويكون ذلك على المستويين في آن واحد: مستوى المضمون والمستوى البصري.

ثمة نفحة قدريّة تلوّح مجمل أعمالها، قدريّة تأسر كل ناظر إلى اللوحات، قدريّة تقول “لا يمنع الموت إلاّ الأجل، لذلك يتجاور الموت مع الحياة في أعمالها وبينهما عقد ملوّن من ثقة وعدل وتكامل لا يعرف مفاعيله ولا حل رباطه إلاّ الخالق.

وسبق لرندة فخري أن نالت الجائزة التشجيعية من المعرض الذي أقيم على هامش مؤتمر “الإبداع والتجديد في الإدارة العربية” من قبل جامعة الدول العربية في العام 2000، كما تحصّلت على الجائزة الثانية في معرض الطلائع الرابع والأربعين لجمعية محبي الفنون الجميلة 2004، ولها العديد من المشاركات في مجموعة من المعارض الجماعية داخل مصر وخارجها، بالإضافة إلى المعارض الخاصة، أهمها معرض حمل عنوان "سراديب".

15