لوحات تستنهض الحياة من جوف الموت

اللبنانية تمارا حداد تغوص عميقا في بؤرة الأرض مستعيدة صفاءها.
السبت 2021/11/06
استخدام لعناصر الطبيعة في لوحات محتفية بالطبيعة

يستمر حتى الثلاثين من نوفمبر الجاري بصالة “تانيت” البيروتية معرض “من الأرض وممّا يؤلفها 2” للتشكيلية اللبنانية تمارا حداد، وكما يُشير العنوان يشكّل هذا المعرض امتدادا لما قدّمته الفنانة سابقا بالصالة ذاتها وتحت المسمّى ذاته.

بيروت – تُتابع الفنانة التشكيلية اللبنانية تمارا حداد التي تلقت تعليمها في مجال التصميم الإعلاني ما قدّمته في معرضها السابق في صالة “تانيت” البيروتية.

ومن خلال هذا المعرض المعنون بـ”من الأرض وممّا يؤلفها 2″، وما نعرفه عن الشرارة الأولى التي انحازت بفضلها نحو التشكيل الفني بدلا عن احتراف التصميم، نستطيع أن نؤكّد أنها تُتابع ولا تستكمل في معرضها الحالي هذا الفيض الفني الهاجس بالطبيعة.

وهي عبر ما تقدّمه اليوم توغل أكثر في الطبيعة، ليس في مظاهرها الخارجية كالأشجار والأزهار، بل في نسغها وعطورها، وتلافيفها وطبقاتها كمن يبحث عن سر الانبهار الذي لا ينضب.

لوحات تمارا حداد تقول "يا للبشري الذي يحتاج ما يدمّره، كأنه يكيل الضربات إلى شخصه وصميم وجوده الموقوت"

نصوص بصرية علمية

لا تكتفي الفنانة برسم خفايا الطبيعة واختلاجاتها بل تستخدم المواد والعناصر المنبعثة منها كالتراب والحصى والرمل ولحاء الأشجار وأغصانها وأوراقها ورقائق الخشب والقش.

وكانت التقطت في أعمالها السابقة أنفاس المساء والصباح، الليل والنهار في انحياز واضح لروحانية وأصول تلك الأنفاس التي تكشف عن طبيعة ما فوق الطبيعة، حيث وضعتها على القماش وفي الصور الفوتوغرافية المشغولة وغير المشغولة ديجيتاليا بحساسية عالية لامست حدود الأجواء الصوفية.

كل أعمالها، أو على الأقل معظم أعمالها السابقة، تنضح بهدوء وسكينة لصيقة بالمعاني التي نتخيّلها غير قابلة للتغيّر ومحمية من أية انتكاسات. انتكاسات إن كانت من فعل البشر أو من فعل مرور الزمن.

الفنانة اليوم دخلت إلى عمق تلك الطبيعة التي اتّسعت أمامها أفقيا كصفحات من حقائق عظيمة غير مكشوفة تماما (وإلاّ توقّفت عن استعادة مواضيعها المرة تلو المرة) لتغوص نظراتها عاموديا صعودا وهبوطا في طبقاتها الغنية بالتفاصيل والألوان المتداخلة.

يكاد الناظر إلى أعمالها أن يتحسّس اختلاف وتنوّع ملمس التراب والحصى والرطوبة والجفاف والتشقّقات والتكتل والتشظي والتداخل وباقي التحوّلات والحالات التي تعيشها وتُريها لنا الأرض (ولا نقول التربة) بسهولة تارة وبصعوبة تارة أخرى، وبالطبع حسب حساسيتنا وخلفياتنا الثقافية والعلمية/ الجيولوجية في آن واحد.

وليس مبالغة القول إن أعمالها الفنية المعروضة في صالة “تانيت” تُحيلنا إلى الأكاديميين أو المفكّرين الذين يقدّمون نصوصا “علمية”، ولكنها تنضح بشاعرية وحساسية عالية تجعل من ناحية الصعب والمُجرد قابلا للاستيعاب ومن ناحية أخرى يصبح الاستطراد بالأفكار المتوالدة منه أمرا جذابا وحتميا. من هؤلاء المفكر الفرنسي غاستون باشلار الذي يحار المرء أمام كتاباته إن كان ما يخطّه شعرا أم علما.

ولمن يريد أن يعلم أكثر عن الطبيعة مما لا يقوله العلم البحت فعليه أن يزور معرضها. ولمن يريد أن يتحسّس ويشعر سيجد هو الآخر ما يريد وسيسير، إن هو سرّح خياله من القيود، في رحلة الفنانة إلى عالم يتعرّض إلى شتى أنواع الانتهاكات ويظل حيا، بل لنقل يظل صبورا.

ونقصد هنا التلوّث والجرف والتصحّر واقتلاع رؤوس الجبال وإشعال الحرائق عن سابق إصرار، وإقامة الكسارات وغيرها من الممارسات والانتهاكات التي تتجدّد كل يوم.

هشاشة الجمال وقوته

بحث جمالي عن سر الانبهار الذي لا ينضب
بحث جمالي عن سر الانبهار الذي لا ينضب

تنحى الفنانة في معرضها هذا إلى التجريدية ليس كنوع وأسلوب فني لتخليص الأشكال من حدودها وأحجامها، بل كاستنهاض لحقيقتها التي مهما اتضحت تظل مُحمّلة بأسرار تنتظر من يسبر أعماقها.

تقول لوحاتها “يا للبشري الذي يحتاج ما يدمّره. وهو في هذا التدمير كأنه يكيل الضربات إلى شخصه وصميم وجوده الموقوت”.

تمارا حداد: أبحث في أعمالي عن جمال المناظر الطبيعية الصخرية

وفي إطار تقديمها للمعرض من خلال البيان الصحافي تكتب الفنانة “الأرض والتربة والصخور والغابات والمحيطات.. عناصر تفوقنا بضخامتها بينما تطوّقنا، حاضرة وغائبة في الوقت نفسه.. قوية وهشّة في مواجهة الزمن والتوسّع البشري، وبينما تواجه الأرض تهديدا جسيما يطال عشرات الآلاف من الفصائل والأنواع التي على وشك الانقراض وتتعرّض الأنظمة البيئية البحرية لعملية تدمير على نطاق واسع، تبرز أسئلة ملحّة: هل سنكون قادرين على العودة وإيجاد التوازن مع الأرض أم أنّها ستجده بمفردها؟”.

وتواصل “من خلال هذه السلسلة الجديدة، أعود إلى أصل الأرض، وأتساءل عن مادتها وطريقة تشكّلها ونقوشها وألوانها. أنا أبحث عن جمال المناظر الطبيعية الصخرية، والأشكال التي لا تنتهي”.

وتتساءل الفنانة في أواخر بيانها الصحافي وتكاد أن تعطي جوابا على تساؤلها بهذه الكلمات “هل سنكون قادرين على العودة وإيجاد التوازن مع الأرض أم أنّها ستجده بمفردها؟”. كما تضع ذاتها في موقف الدفاع عن الأرض ومحاولة استنهاض الضمير البشري، ولكنها في لوحاتها الهادئة تلك على الرغم من الضجيج اللوني حينا وتراكم الخطوط وتعرجاتها تتوّجه إلى الأرض لتعيد إقامة التوازن الذي “ستجده بمفردها”.

مع كل هذا الإفصاح في بيان الفنانة، وتأكيدها بالتوجّه إلى الإنسان، قاتل الطبيعة، لوحاتها تقول أمرا آخر. إنها أشعار مخطوطة لـ”حضرة” الطبيعة. أشعار مُستقاة منها ماديا من خلال المواد المستخدمة وضمنا من خلال الرغبة الملحة والناجحة في تظهير جمالها.

تمارا حداد ترسم بحب جمال الطبيعة كمن يتمتم في طول اللوحات وعرضها، بهدوء لغة بليغة الأهمية، إمعان الإنسان في النسيان، وترسم في الآن ذاته بشرى يقظة الطبيعة عوضا عن يقظة الإنسان المفروغ من أمره. ربما لأجل ذلك يشعر المرء بالسكينة عند النظر إلى معظم اللوحات وضوضائها.

ثمة أعمال فنية كثيرة لفنانين كثر تناولوا الطبيعة ليحصدوا الإعجاب، ولكن ليس دائما أن يعثر زائر المعارض الفنية على أعمال تتحدّث عن الجمال والتدمير من خلال إظهار هشاشة الجمال، ولكن في الوقت ذاته، قوة هذه الهشاشة.

عالم يتعرّض إلى شتى أنواع الانتهاكات ويظل حيا

 

14