بطرس المعرّي يُسمع صوت الدمشقي إلى العالم

الفنان السوري يجمع الكتابة بالرسم في مؤلف جديد.
السبت 2021/10/09
مطر ربيعيّ لا ينذر بمكان حلوله وهطوله

صدر حديثا مؤلف جديد للفنان السوري متعدّد المواهب بطرس المعرّي بعنوان “رؤيا الدمشقي.. قصص الخوف ورسوماته” عن دار النشر العريقة “أطلس” التي تملكها سمر حداد. وهو الكتاب الثاني له بعد “كيوبيد الدمشقي” الذي يجمع فيه بين الكتابة والرسم.

من الصعب الحديث عن الفنان السوري بطرس المعرّي وإن كان ذلك حصرا من خلال إلقاء نظرة على مؤلفه الأدبي/ الفني، وذلك لكثرة ما هو “كثي” ومتنوّع على الرغم من كونه يدور دوما في فلك عشقه لمدينته العريقة، دمشق.

فهو من الناحية الأدبية أصدر مجموعة من القصص المخصّصة للأطفال لم تخرج عن حبه لمدينته وأجوائها وقام بتطعيمها برسوماته الطريفة والمُعبرة.

أما “كيوبيد الدمشقي” و”رؤيا الدمشقي” المخصّصان للكبار، فهما مؤلفان تعلو نسبة شاعريتهما حينا وتخفت لتصبح سردا ونثرا ينساب بسهولة الصدق وعفويته.

كائنات متوهّجة تتلهّف للبزوغ في حلتها الذهبية

حكواتي الرسم

أراد المعرّي من تلك المؤلفات أن تكون بوابة تنقله هو أولا، والقارئ ثانيا إن هو أراد، إلى عالم دمشقي/ مشرقي غامر لا مثيل له بعيدا كل البعد عن الهشاشة الفولكلورية التي طغت في الصور الترويجية والمسلسلات التلفزيونية.

أما من ناحية التقنية الفنية فقد استخدم الفنان الرسم بالرصاص والألوان المائية وألوان الأكريليك والحبر، كما استخدم القصاصات الورقية المُدعّمة وغير المُدعّمة وأوراق الجرائد. وله رسومات ولوحات فنية وأعمال كاريكاتيرية ورسومات غرافيك ورسومات توضيحية.

كتابه الأخير الصادر حديثا، هو كالأول لناحية تداخل الكتابة مع الرسم، ولناحية الانسياب الذي يحيلنا إلى تدفّق المياه البلورية في نوافير الماء غير الصاخبة.

غير أن جديده، أي “رؤيا الدمشقي.. قصص الخوف ورسوماته” حلّق في فضاء آخر امتزجت فيه حالات وجدانية غزيرة وجدت مرتعا لها في روح الدمشقيّ الرحّال الذي كان في يوم من الأيام “كيوبيدا” وظل كذلك على أكثر من صعيد. امتزجت هذه الحالات الوجدانية ولم تتعاقب.

وحدث هذا المزج على صفحات كتابه أولا بشفافية وانسياب ريشة الفنان ونصاعة الخطوط التي استخدمها، وثانيا بانهمار كلماته كمطر ربيعيّ عُرف عنه أنه لا يتحضر قبل أن يهطل ولا ينذر مكان حلوله، بهطوله.

تتخمّر هذه الحالات الوجدانية صفحة تلوى الصفحة أمام القارئ/ المُتفرج لتصبح رؤى تفيض عبقا أحمر/ ورديا/ مغيبيا يذكّر ببعض لوحاته الأكثر شاعرية.

ولا يأبى هذا الورديّ “المغيبيّ” بأن يتجلى إلاّ مع مشارق شموس مُضاعفة ومتوهّجة تتلهّف للبزوغ في حلتها الذهبية وهي في أوج تلقفها للصدمات الوجودية.

صدمات يسردها الحكواتي الفنان ليس كرثاء، بل كاحتفال بالحياة حتى وإن كانت في بعض نصوصه الشعرية الرقيقة على شفير الإطفاء من هول السنوات وهول الحروب، ومن حدة توهّج الأحلام الشاهقة التي روّضت نفسها بأن تكون أحلاما من النوع الجوهريّ، أي من النوع الذي لا يهمّه التحقّق بقدر ما يعنيه أن يكون المصدر الحيويّ لأي تألقّ يظهر ويستمرّ في الظهور في مجمل أعماله الفنية رسما وكتابة.

سقوط إلى الأعلى

ليس كل ما نشاهده حقيقيا.. وليس كل ما نراه نهائيا
ليس كل ما نشاهده حقيقيا.. وليس كل ما نراه نهائيا

ننتقي هنا مقتطفا قصيرا من كتابه الأخير يكاد يكون عصارة ما كتبه لناحية الأفكار المطروحة التي تحيل القارئ إلى عدة أفكار وصور أخرى تشتعل، ليس كالنار في الهشيم، ولكن كالأسهم النارية الملوّنة في سماء ليلية كدّرتها بعض الغيوم.

يكتب المعرّي ضمن عنوان فرعي “باب توما” هذه الكلمات “سجلوا ذكرياتكم قبل أن تأتي عليها النار/ سجلوا تفاصيل حبكم الأول/ وأسماء الصحاب والخلان والجيران/ سجلوا أماكن اللعب والمشاوير/ والدكاكين التي صرفتم فيها ليرتكم الأولى../ صوّروا وجوه أمهاتكم/ وصوّروا باب الدار وشجرة النارنج في أرضها”.

“صوّروا/ وسجّلوا” فعلان لا ينفصلان عند المعرّي. فمعظم ما يكتبه يمتلك خامة بصرية عالية جدا ودعوة للتصوّر. وكل ما رسمه يسرد، يحكي، يكتب، ويتحدّث. إنه ضرب من ضروب التوثيق للمشاعر وللمشاهدات، وتخفيف من وطأة كل شيء وكل أمر على النفس.

في حين بدت رسوماته في مؤلف “كيوفيد الدمشقي” متميّزة برقة الخطوط وعفويتها وتعبيريتها ونقائها وصفاء العيون المرسومة في العديد منها، جاء كتابه الثاني “رؤيا الدمشقي.. قصص الخوف ورسوماته” أشبه بفيلم سينمائي يقبض على اهتمام القارئ/ المُشاهد من الصفحة ما قبل الأولى، أي قبل أن يبدأ النص الكتابيّ ويضع القارئ فورا، كعادة الفنان في مجمل أعماله الفنية المُتميزة بالمُباشرة، ولكن اللاذعة الساخرة حينا، والعميقة الوجدانية تارة أخرى، في جوّ المؤُلف: شخص مُعلق في الفضاء، أو السماء أو الغياب، والزمن المفتوح. شخص يحلّق أو يهوي.

رسومات تسرد عالما دمشقيا غامرا لا مثيل له، بعيدا عن الهشاشة الفولكلورية التي طغت على الدراما التلفزيونية

وتتالى الصور مع تتالي الكلمات والصفحات. فيحدث السقوط إلى عالم قاتم لونيا، ولكنه لا يخلو من انقشاع منعش تهمس للقارئ/ المُشاهد “ليس كل ما تشاهده، هو حقيقي.. وليس كل ما تراه هو نهائي”.

أما هذا “السقوط” فهو مُحيّر. ويحيل القارئ/ المُشاهد إلى ما كتب عنه طويلا المفكر الفرنسي غاستون باشلار حول كون الأجنحة الملتصقة بالكتيفين هي للسقوط. أما تلك الموجودة على حافة القدمين هي للسقوط. ليس السقوط إلى الأسفل  ولكن إلى الأعلى، إلى الهوةّ الناصعة.

المهم من كل ذلك أن الصور المكتوبة أو الكتابة البصرية في “رؤيا الدمشقي” هي بكلمة واحدة تجسّد الخفقان. قد تكون خفقانا أو خلجات أجنحة تهوي، وقد تكون لما يُحلّق منها. وقد يكون الاثنان في تجاور، كما تتجاور التناقضات في حياتنا اليومية.

وبطرس المعرّي فنان تشكيلي سوري من مواليد مدينة دمشق. وهو مدرّس جامعي، يكتب في الشأن الثقافي وله أعمال كاريكاتيرية لاذعة، كما هو مؤلّف ومصوّر كتب للأطفال صدرت كلها عن دور نشر فرنسية. فالفنان نشر ثمانية كتب عن دار لارماتان، ودار جاسمان بباريس، منها أربع قصص من الأدب الشعبي أعاد صياغتها لتُناسب الأطفال.

وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية من باريس، تناولت ما حصل في سوريا على المستويين الاجتماعي والنفسي. وله العديد من المعارض الفردية والجماعية داخل دمشق وفي العالم.

Thumbnail
14