"المثقف النجم" و"النجم المثقف".. خطان متوازيان في العالم العربي

اهتمام نجوم التلفزيون بالثقافة ضرب من الترف ونوع من الاستعراض.
الجمعة 2021/09/03
المقاهي الثقافية آخر ما جمع نجوم الفكر بنجوم الفن

من الغريب أن الحداثة قلصت وحتى محت الحدود بين الأجناس الفنية، واستفادت الفنون والآداب بعضها من بعض، ولنا في علاقة السينما بالمسرح والرواية وحتى الشعر وعلاقة التشكيل بالموسيقى وغيرها خير دليل على ذلك، لكن في ظل عالم ما تنفك تنفتح فنونه على بعضها نشهد في العالم العربي تراجعا في هذا الشأن، فصار المبدعون فئويين، فلا تجد الكاتب منفتحا على الفنون ومتابعا لها، ولا تجد الفنان مهتما بالأدب، بل لا علاقات مثمرة تجمع بين المبدعين مختلفي التوجهات، وهذا ما يطرح التساؤل في النهاية حول أهمية ما يبدعونه إن كان بلون واحد. 

"نجم مثقف"، توصيف يكاد يدعو إلى الاستغراب أو يحمل في طياته بعض السخرية، وذلك لأنه يتضمن النقيضين في نظر الكثير من الناس في العالم العربي على وجه الخصوص.

النجومية التلفزيونية، وما يرافقها من شروط خاصة ومكلفة، كالوسامة والثراء وندرة الإطلالات الجماهيرية مع كثافة الاهتمامات الإعلامية، لا يمكن لها أن تلتقي، في نظر الجمهور “العاقل العريض”، مع حضور ومناقشة الندوات وزيارة المعارض، وكذلك الشغف بالقراءة والكتابة ومتابعة آخر الإصدارات الفكرية.

المثقف بدوره، لدى قرائه ومتابعيه، لا ينبغي له الظهور في مهرجان غنائي أو على مدرجات ملعب رياضي، ولا يجب أن يسفح وقته في متابعة مسلسل تلفزيوني. فما بالك لو شارك في مثل هذه الاحتفاليات والنشاطات؟ ساعتها سيسقط، بالتأكيد، من عيون قرائه ومتابعيه.

الانفتاح الفئوي

كلا الطرفين إذن، يتمسكان بالصورة التي يجدر أن تكون عليها شخصية النجم التلفزيوني من جهة والمثقف الأكاديمي من جهة أخرى. وأي عملية خلط أو تشابك بين الهيئتين ستربك المشهد وتتوه البوصلة فتهز من الصورة المرسومة في ذهن كل فريق.

هناك حدود مرسومة للمثقف كما للفنان، ولا ينبغي الحياد عنها مهما كانت الاهتمامات الخاصة.

مهلا، قد يتقبلون تلك الاهتمامات، ولكن في إطار الهواية وملء أوقات الفراغ، كأن يستلطفون كاتبا يعزف على آلة موسيقية ما أو يستظرفون مطربا يهتم بقراءة الروايات، أما أن يعلن عن ذلك كحالة شغف أو احتراف فالأمر مرفوض رفضا باتا لدى محبيه ومتابعيه.

انفتاح النجم التلفزيوني في العالم العربي لا يكون إلا مناسباتيا، وعلى سبيل التصنع وركوب موجة دارجة من أجل تقوية الرصيد الجماهيري كالاصطفاف مع فريق كروي دون غيره في المونديال أو اقتناء مؤلفات كاتب فاز بجائزة ما أو حتى مات فأحدثت وفاته هزة في الأوساط الأدبية.

الأمر لا يختلف عن المثقف الذي يريد التقرب من الوسط التلفزيوني لغاية في نفسه أو يحب أن يوحي لقرائه ومتابعيه بأنه “لا ينفصل عن نبض الشارع الفني”.

الآن بدأ يظهر هذا الانفتاح الفئوي بين المثقف الأكاديمي والنجم الجماهيري، وذلك لعدة أسباب منها المخفي ومنها المعلن، منها الحقيقي ومنها المزيف.

بين الفن والثقافة

الأمر قد يبدو مشابها في العالم الأوروبي والأميركي، من ناحية المسافة الفاصلة بين المثقف النخبوي والفنان الجماهيري، لكنه يختلف من جهة طبيعة الاهتمام ومرونة انفتاحه في مجتمعات تتداخل فيها المعارف والاهتمامات صلب الأسرة والواحدة والبيت الواحد.

المنزل الذي يضم بين جدرانه وداخل أسواره الآلات الرياضية مع الآلات الموسيقية، والكتب مع الأسطوانات واللوحات، هو حتما، سوف يشهد تربية مختلفة وحساسيات فكرية وفنية متنوعة، تتجاور وتتحاور داخل مبدأ الوحدة والتنوع.

يضاف إلى هذا التنوع في الإمكانيات والمقتنيات، تنوع داخل الأسرة والمجتمع من حيث الانفتاح والتسامح بين الأفكار، أما النمطية المقيتة المتكئة على التسطيح والتوريث، فلا تنتج إلا اللون الواحد والتعصب له داخل عقلية التصنيف والتقسيم.

المثقف يريد التقرب من الوسط التلفزيوني لغاية في نفسه فيوحي لمتابعيه بأنه لا ينفصل عن نبض الشارع الفني

ولكي لا نبقى أسرى حدود التنظير والإسقاطات والحكم من بعيد، فإن نظرة متفحصة إلى الوسط الثقافي والفني في العالم العربي، تجعلنا نلحظ بعض التحولات في مسألة التقوقع وعدم الانفتاح على الأجناس الفنية المختلفة، إذ صار الواحد يلمح مثقفا معروفا داخل حفل فني جماهيري، كما بات بالإمكان رؤية نجم غنائي أو تلفزيوني في ندوة فكرية أو معرض للكتاب.

حالة الانفتاح هذه بين الفن والثقافة وعدم الاكتفاء بالتخصص كانت أكثر وضوحا من اليوم، خصوصا في منتصف القرن الماضي والعقود التي تلته. هذا بالإضافة إلى الصداقات التي ميزت صداقة الكتاب والشعراء بالفنانين والصحافيين والموسيقيين.

ومن نماذج هذه الحالات، صداقة محمد عبدالوهاب بالشاعر أحمد شوقي، كذلك بالصالون الصحافي التي كانت تقيمه روز اليوسف والدة الكاتب إحسان عبدالقدوس.

وتتعدد الأمثلة كصداقة نزار قباني بطه حسين، وممارسة الممثل كمال الشناوي للفن التشكيلي، أما الرسام السوري العالمي فاتح المدرس فكانت تربطه صداقة متينة مع المفكر جان بول سارتر في باريس.

وكذلك كانت للفنان الفرنسي ذي الأصول الأرمينية شارل أزنافور علاقات صداقة وطيدة مع الكثير من الفنانين والممثلين العرب من المشرق والمغرب، دون عقد أو تمييز بين الشعبي والنخبوي، حيث كان صديقا للممثل المصري عمر الشريف ومغنيي الراي الجزائري خالد والراحل رشيد طه ولمغنيين تونسيين ومصريين ومغاربة أيضا. وكان وراء مجيء أم كلثوم إلى باريس لتغني في صالة “الأولمبيا”.

هذا بالإضافة إلى صداقته مع عدد من المثقفين المصريين ورجال المسرح والسينما، بينهم الممثل عزت أبوعوف والمطربة أنوشكا والممثلة إيمان ووزير الثقافة الأسبق فاروق حسني.

المثقف النجم

Thumbnail

كلمة “نجم مثقف” أو “مثقف نجم” التي تذيب الجليد وتمحو الفوارق والتصنيفات الفئوية وحتى الطبقية، كانت تتحقق وتتجلى في أعلى مظاهرها بالمقاهي الثقافية، فكان الواحد يجد مثلا، في مقهى “ريش” القاهري المطل على ميدان طلعت حرب،  وهو مقهى تاريخي تعاقبت عليه أجيال وأجيال من كبار الكُتاب والمثقفين والسياسيين ونجوم الفن، يجد كل هؤلاء مجتمعين كنجيب محفوظ ويوسف إدريس ولويس عوض وسعد وهبة وكرم مطاوع وكمال يسن وعباس الأسواني ومحسنة توفيق وصلاح جاهين وأمين يوسف غراب وغيرهم.

هذه اللقاءات المتجانسة انطفأت وتفرقت في ما بعد بفعل الفرز الطبقي، وعوضتها النوادي الخاصة للفئات الميسورة من الكتاب والفنانين ثم ساد نوع من “الأمية الفنية والثقافية” كرست التباعد وانعدام الحوارات واللقاءات بين الطرفين، وإن كان ذلك لصالح المنشغلين بالغناء والتمثيل على حساب الكتاب الذين أفلت نجوميتهم بعد وفاة نجيب محفوظ.

الحقيقة هو أن الكتاب والمثقفين الذين حققوا نوعا من النجومية بمفهومها الجماهيري الحالي، كانوا قلة بالمقارنة مع المطربين والممثلين.

وهذه طبيعة الأشياء داخل مجتمعاتنا التي صارت تستهلك بعيونها وحدها في ظل ذائقة بائسة، لكن أسماء معدودة حققت حضورها في الساحتين الفنية والثقافية على حد سواء، كمحمود حميدة، علي الحجار، خالد الصاوي، شريف منير، ومن قبلهم محمود وصلاح السعدني.

أما نموذج المثقف النجم، فقد سعى إليه وحقق جزءا هاما منه، المخرج الراحل يوسف شاهين، خصوصا أثناء دعوته لإدوارد سعيد في فيلم “الآخر”.. وبدرجة أكثر شعبية كان حضور أسامة أنور عكاشة في المشهد الإعلامي، أما فيروز فظلت الأيقونة التي تحفظ ولا يقاس عليها.

15