معضلة فنية معقدة.. متى تسمح لنا الموضة بثياب دون كيّ

يرى الكثيرون أن اشتغال المبدع المتواصل على عمله الإبداعي سواء أكان أدبا أم فنا، يفقده دفقته الأولى الصادقة ويحوله إلى صناعة ثقيلة قد لا يستسيغها المتلقي، إذ تفقد وهجها وحرارة مولدها، فيما يرى آخرون أن الاشتغال ضرورة ملحة لتجاوز هنات الولادة الأولى وتشذيب العمل الإبداعي باستمرار لتحقيق الاكتمال، ولكن هل ينشد الفن والإبداع عموما الكمال؟
يتسع الجدل - ولا يزال ـ منذ القديم، بين أنصار “النسخة الأولى” من الإنتاج الكتابي، والفني عموما، وبين المنادين بضرورة الاشتغال على القصيدة والرواية والمنحوتة وغيرها، قبل دخولها أسواق العرض والنشر.
وعلى مستوى الشعر العربي القديم، برز هذا الجدال بين الذين يأخذون بالسليقة والفطرة في القصيدة، ويعتبرون ذلك أثمن ما فيها وأكثره صدقية وطزاجة، وبين من سمتهم العرب بـ”عبيد الشعر”، وهم أولئك الذين يأخذون وقتهم الطويل في التنقيح والتبديل والتشذيب. ويتزعم هذه الفئة الشاعر أوس بن حجر، الذي كان زهير بن أبي سلمى من أخلص أتباعه وتلاميذه، حتى سميت قصائده بالحوليات، لكثرة اشتغاله عليها فترة تقارب الحول من الزمن.
النقصان الفني
هو خلاف يمتد إلى عصر الملاحم لدى الإغريق والرومان، وامتد حتى عصر النهضة في فنون النحت والتصوير، وذلك لحدة التصادم بين النظريتين، لكن النزوع نحو إنتاج الفن في هيئته الأولى، كثيرا ما يكسر القواعد الاتباعية والضوابط الكلاسيكية ليطل برأسه عند كل عصر ثم يعود فيختفي. وهكذا دواليك إلى عصرنا الحالي.
الخلاف بين الاشتغال على الأثر وتركه على هيئته البكر يمتد منذ عصر الملاحم لدى الإغريق والرومان إلى اليوم
“الروتشة” عمل يرافق كل إنتاج فني ويسبق عرضه في شتى المجالات، لكن ماذا لو تصبح هذه “الروتشة” نفسها، مكتملة في عدم وجودها أي أن إخراج الأثر الفني في هيئته الأولى جزء من هذا التنقيح الافتراضي، والتشذيب الذي “كان يجب أن يكون”.
هذا الوعي بضرورة الهيئة التي يمكن أن يكون عليها العمل الفني، أصبح في حد ذاته، موطن جدل وخلافا يمكن أن نلحظه في الفنون الحديثة، طالت حتى المعمار الذي بتنا نشاهده في مواضع كثيرة على شكل أعمال لم تكتمل. في حين أنها قد اكتملت في أذهان أصحابها عبر إعطائهم الانطباع بأنها لم تكتمل.
الأمثلة على هذا كثيرة ومتنوعة في الكثير من التحف المعمارية في عدد كبير من بلدان العالم على غرار هيكل غادي الشهير في برشلونة، كنيسة برلين، مركز بومبيدو في باريس.
الأمر طال منجزات فنية كثيرة توحي للناظر بعدم اكتمالها أو بشيء من النقص في “أناقتها” كم يغادر بيته غير ممشط الشعر أو غير مكوي الثياب.
“صحيح.. متى تدرج وتشيع موضة ارتداء الثياب دون كيّ؟”، أمنية تسكن كل “الكسالى” مثلي، من أولئك الذين لا يطيقون الوقوف والانحناء أمام “جحش الكيّ” كل صباح.
في اتجاه التبسيط
هذا النزوع الحر نحو تناول الأشياء في هيئتها الأولى دون تصويب أو تشذيب أو تهذيب، يطرح سؤالا مزمنا وهو: هل تتجه الحضارة ـ وبكل ما أوتيت من فنون العيش والمعرفة والثقافة ـ نحو التبسيط أم التعقيد؟
مهلا، التبسيط هنا لا يعني الاستسهال والتسطيح، كما أن التعقيد قد يعني ترويض العقل وأخذه نحو متعة المغامرة والاكتشاف، وليس على سبيل مسك الأذن اليمنى باليد اليسرى كما يقال.
ويُعد استنطاق قيم جمالية واستنهاض أبعاد معرفية من خلال الإبقاء على الهيئة الأولى للأشياء منهجا مشى فيه العديد من الفنانين والمبدعين منذ عقود، لكنه لم يصل إلى مرحلة الحسم القاطع. وظلت عمليات التحضير والإعداد والتهيئة، طابعا يلتصق بالإنتاج الإبداعي على مختلف أنواعه وأجناسه.
وكما كانت “موتيفات” و”اسكتشات” ليوناردو دي فانتشي، ذات قيمة فنية، تباع وتشترى دون الحاجة لإكمالها، فإن عارضين وناشرين كثيرين اهتدوا إلى هذا الأسلوب التسويقي فدأبوا إلى إطلاع الجمهور العريض على مخطوطات وبروفات، تصورات بدائية لمشاريع أعمال إبداعية.
لاقى هذا الأسلوب استحسانا لدى عشاق الفن البدائي (لارت ناييف)، على اعتباره أكثر صدقية وبعيدا عن التكلف والروتشة حتى أمسى الأمر صناعة في حدّ ذاتها، تشبه في أحيان كثيرة، تعتيق العملة المزورة والقطع الأثرية المقلدة قبل بيعها للسياح.
وانطلاقا من هذا المفهوم المزعوم، يصبح ارتداء الثياب المجعلكة (غير المكوية) ضربا من الموضة الرائجة، وشكلا من أشكال كسر الروتين، حتى وإن كان صاحب تلك الثياب يمتلك مكواة وقادرا على استئجار مكوجيّ (كواء).
هكذا تصبح “جعلكة” الثياب قبل ارتدائها موضة كما ظهر الجينز الكاحت، باهت اللون في بداياته وخصصت له المصانع لأجل ذلك الغرض.
فلسفة تسويق الإنتاج الفني باسم البساطة والبعد عن التكلف أشبه بالتغريب وكسر الجدار الرابع في مسرح بريخت
فلسفة تسويق هذا النوع من الإنتاج الفني جاهزة باسم البساطة والبعد عن التكلف. إنها أشبه بالتغريب وكسر الجدار الرابع في مسرح برتولد بريخت أو فتح كواليس المطابخ أمام زبائن المطاعم أو حتى قطع التذاكر لحضور التدريبات الرياضية أو البروفات المسرحية لدى فريق برشلونة الإسباني ومسرح بيتر بروك الإنجليزي.
التبسيط في هذه الحالة يمر عن طريق التعقيد والتصنع فيمسي مثل الغني الذي يصر على تصميم منزله على شكل كوخ فقير، مع مدفئة من حطب، في الوقت الذي بإمكانه التمتع بكل وسائل الراحة التي في حوزته.
لكن الأمر الذي جعلنا نتمنى ظهور موضة “تسمح” بارتداء ثياب غير مكوية، هو الكسل ولا شيء غير الكسل. ثم تأتي الموضة لتبرر لنا هذا الكسل وتبحث في الذرائع والفلسفات مثل قصص الأزرار والمناديل في السترات الرجالية والقفازات والكعوب العالية لدى النساء.. والتي قيل إنها ابتدعت من أجل امرأة قصيرة تريد أن تقبّل حبيبها ذي القامة الطويلة.
أما السؤال الأهم في هذه المعادلة التي تبدو متوهة هو من يلاحق الآخر: الموضة والإبداع أم الحاجة والضرورة؟
الحقيقة أن هناك نوعا من التواطؤ بين الاثنين، ويكاد يستحيل إثبات أقدمية واحد على الآخر بسهولة، ذلك أن العقل البشري وثاب بطبعه، ودائم الميل إلى التمويه ومحو الأثر في لعبة ثنائية الخفاء والتجلي.
خلاصة القول إن الإبداع الإنساني يتجه نحو التعقيد باسم التبسيط، وللتبسيط بغاية التعقيد، فللوصول إلى نغمة متناهية العذوبة والصفاء، ينبغي على عازف الكمان أن يمر بتدريبات متشابكة ومعقدة إلى أبعد حد في وضع أصابعه على الآلة كما كان يقول شيطان الكمان نيكولو باغنيني، أواخر القرن الثامن عشر.
ارتداء ثياب مكوية جاءت بعد معاناة طويلة مع “الثياب المجعلكة”، وكذلك العكس.. وقس على ذلك في الشعر والمسرح والرقص والموسيقى.