المتاحف في العالم العربي مزارات للأجانب والمسنين وعشاق "القدامة"

الثقافة المتحفية السائدة يجب أن تتغير للتحرر من النمطية والركود.
الأربعاء 2021/08/11
المتاحف لها جانب حي وحيوي ضروري

قد يرى البعض من قصار النظر أن المتاحف مجرد ترف اقتداء بنشأتها في قصور الملوك والأثرياء، بينما الحقيقة بعيدة كل البعد عن هذه النظرة السطحية. المتاحف اليوم عماد ثقافي لأيّ دولة، وهي وجهها الحضاري، وكيانها الراسخ، والذي يتجاوز عرض التاريخ إلى المساهمة في صناعته.

 “ربما نحمد الله أن مجتمعنا لا يهتم للمتاحف والآثار، وإلا كانت الحصيلة أوجع بكثير”، هي سخرية مرّة وسوداء، وأشبه بالنكتة السمجة كان تناولها التونسيون في الذكرى السادسة لإحياء المجزرة التي ارتكبها إرهابيون في متحف باردو الشهير، وراح ضحيتها 21 سائحا كلهم من الأجانب، بالإضافة إلى عنصر أمني تونسي و45 جريحا واحتجاز حوالي 200 سائح لفترة قصيرة قبل أن يقع القضاء على المهاجمين.

عادة زيارة المتاحف والاهتمام بما يستجد فيها من عروض ومقتنيات ونشاطات في العالم العربي عموما، تكاد تنعدم في الثقافة العربية، ويعتبرها الجميع شأنا سياحيا خالصا، يخص الوافدين ونخبة المهتمين.

الخروج من السبات

إن شاهد المرء أطفالا في الممرات وردهات المتاحف يتصايحون ويتزاحمون، فلا ينخدع بذلك. إنها مجرد رحلة مدرسية روتينية بقصد التسلية والترفيه، تغيب عنها المتابعة الجدية، وتنقصها الإحاطة والترغيب في المحيط التربوي والأسري والإعلامي.

الثقافة المتحفية في أقطار العالم العربي يجب أن تخرج من الطراز المتداول القديم لتحل محلها ثقافة طازجة متفاعلة

أما لدى الكبار فلا تزال المتاحف بالنسبة إليهم، مزارات تخص المسنين من الأجانب وحدهم، وليست فضاءات للاطلاع والتثقيف، كونها لا تحوي إلا الأوابد والمعروضات التي ملوا رؤيتها في الطوابع البريدية وعلى شاشة التلفزيون الرسمي أثناء انقطاع البث المباشر.

هي بالفعل، كذلك، عند الجهات المختصة والقيمين عليها، إذ لا يلتفتون إلى جانبها الحي والحيوي، ويبقون عليها فضاءات ميتة دون تفعيل ثقافي وفكري كإقامة المعارض والندوات والعروض المسرحية والموسيقية.

الإداريون في وزارة الإشراف يظنون أن مجرد فتح المتاحف، وبالمجان لعموم الناس في المناسبات الرسمية، سيحل مشكلة إحجام الناس عن هذه العادة التي لا تدخل في ثقافتهم أصلا.

ها هي وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية في تونس مثلا، تعلن مرارا ـ وفي كل مناسبة وطنية أو دينية ـ أن الدخول إلى جميع المتاحف والمواقع الأثريّة والمعالم التاريخيّة سيكون مجانيا. هذا بالإضافة إلى مجانيتها أول أحد من كل شهر، وكذلك يوم الثامن عشر من مايو الموافق لليوم العالمي للمتاحف.

ومع ذلك تبقى الحصيلة المتواضعة هي نفسها، على اعتبار أن أبواب المتاحف في الذهنية السائدة مقفلة دائمة، لا لأنها تفتح بالنقود بل لأنها لا تعني السكان المحليين، ويعتبرون التردد إليها ضربا من الفذلكة والتشبه الأعمى بالأجانب الذين “لبّوا كل حاجياتهم وأصبح لا همّ لهم إلا التفرج على الأحجار وزيارة الخرائب”، حسب قول أحد سكان الضاحية التي يقع فيها المتحف الوطني في تونس.

حميدة هي هذه القرارات التي تسمح للناس بالتعرف إلى آثار بلدانهم مجانا في مناسبات معينة من العام، لكن يا حبذا لو يضاف إليها إجراءات وتحضيرات من جهات أخرى تتمثل في إرساء وترسيخ القيم المعرفية للثقافة المتحفية أولا، بالإضافة إلى إخراج المواقع الأثرية من سباتها وتأثيثها بمهرجانات وعروض احتفالية تجعلها حية في حياة ووجدان الناس.

الثقافة المتحفية

Thumbnail

بقية البلدان العربية بدأت تبدي اهتماما ملحوظا بالثقافة المتحفية في السنوات الأخيرة مثل متحف اللوفر أبوظبي الذي افتتح أبوابه لأول مرة في عام 2017، ليكون أول متحف عالمي في العالم العربي ينقل روح الحوار والانفتاح إلى ثقافات العالم. وجاء إثر اتفاقية بين دولتي الإمارات وفرنسا سنة 2007، أثمرت عن هذا الصرح البشري الكبير في هندسته ومقتنياته وقيمته المعرفية والسياحية.. وهو ما من شأنه أن يشع بحضوره محليا ودوليا ليسهم في صنع ثقافة كونية لدى كل من زاره، ولو لمجرد التقاط الصور التذكارية. أما المتحف الوطني السعودي في الرياض الذي يمسح فضاء شاسعا، وصممه المهندس المعماري رايموند مورياما، ليحاكي شكله الكثبان الرملية الحمراء، فبدأ يلقى اهتماما كبيرا هو والمواقع الأثرية الأخرى ضمن خطة التطوير والتحديث التي تعدها المملكة.

وبدأت السعودية تخرج من تلك النظرة النمطية الضيقة للآثار والمتاحف التي كانت تحكمها الذهنية السلفية، وأصبح هناك تركيز على خارطة آثار شاملة تمسح كل الحقب في تاريخ المنطقة دون استثناء أو مفاضلة دينية من شأنها أن تقيد ثقافة الناشئة.

هذه “الانتفاضة الثقافية” والوعي بالمخزون الحضاري في المنطقة العربية بدأت تعطي أكلها بفضل المتابعة السياسية التي لولاها لتخلف الركب الثقافي أكثر مما هو عليه، بالرغم من أن الكثير من المنتقدين يربطون هذه الانجازات بالبروبغاندا السياسية مثلما حصل مع احتفالية نقل المومياء في مصر.. فليكن.. أليست أهم الإنجازات الحضارية والثقافية في أوروبا والعالم شكلا من أشكال الدعاية السياسية.

الأمثلة على ذلك كثيرة ومتنوعة في أوروبا، ولكنّ بلدا مثل ألمانيا اليوم، تجاوز مجرد التحشيد الانتخابي لدى اليساريين والخضر في برلين ليصل إلى مبادرة أطلقتها جمعية متاحف برلين والحكومة الاتحادية لإتاحة الدخول المجاني إلى متاحف المدينة أيام الأحد مطلع كل شهر، وعادت حشود الزائرين، مع الالتزام بارتداء الكمامات لتصل إلى عشرات أضعاف ما كانت عليه.

العالم العربي بإمكانه أن ينسج على هذا المنوال الألماني في التنمية والنهوض بالثقافة المتحفية، خصوصا إذا علمنا أن مبادرة برلين وجدت طريقة لجذب الزوار وسط أزمة صحية عالمية مستدامة. وتضم هذه الأحداث “أسبوع الفن في برلين”، وفعالية “دراوسنشتات” في الهواء الطلق، و”إعادة إطلاق ثقافة النوادي”، وهو مشروع تجريبي يجرى في برلين هذا الصيف للوقوف على كيفية تنظيم الحفلات خلال الجائحة.

الثقافة المتحفية في أقطار العالم العربي يجب أن توضع في متحف وفق الطراز المتداول القديم لتحل محلها ثقافة طازجة متفاعلة مع محيطها دون أن تمجد “القدامة” وتغازل الفكر المحنط.

على العرب أن يرسخوا القيم المعرفية للثقافة المتحفية بالإضافة إلى إخراج المواقع الأثرية من سباتها بأساليب مبتكرة
على العرب أن يرسخوا القيم المعرفية للثقافة المتحفية بالإضافة إلى إخراج المواقع الأثرية من سباتها بأساليب مبتكرة

 

14