بعد قرون طويلة من القصائد.. هل خفت صوت الشعر العراقي اليوم؟

لا يمكننا التطرق للحديث عن الشعر العربي بمعزل عن الشعر العراقي، الذي يمثل منذ صدر الإسلام ذروة القصيدة العربية في مختلف تحولاتها الشكلية والموضوعية والفنية والجمالية، منذ عصور الدولة العباسية وما عرفته من شعراء أمثال أبي العلاء المعري والمتنبي والبحتري وصولا إلى شعراء الحداثة من نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وما تلاهم من المجددين أمثال سعدي يوسف وسامي مهدي وسركون بولص وغيرهم كثير. ولم يتوقف الشعر العراقي عن العطاء وعن تمثيل جزء هام من الشعرية العربية كأفضل ما يكون، لكن يبدو أن واقعه اليوم تغير. فهل خفت الشعر العراقي؟ وما هي أسباب ذلك؟
يُنسب إلى محمود درويش القول “إذا أردت أن تكون شاعرا فكن عراقيا”، ويرى بعض النقاد والدارسين أن من غير الممكن الحديث عن الشعر العربي، قديمه وحديثه، من دون الحديث عن الشعر العراقي في كل الأزمنة.
لكن ثمة من يقول إن صوت الشعر العراقي اليوم قد خفت، فهل مهد انتقال الكثير من شعراء العراق إلى الرواية الطريق للتخلي عن الشعر أم أن الواقع العراقي الراهن لم تعد تكفيه القصيدة؟
تراجع كلي

يرى الشاعر سامي مهدي أن صوت الشعر العراقي خفت منذ ما بعد الاحتلال عام 2003، ولم يعد كما كان عليه في النصف الثاني من القرن الماضي، لأسباب عدة متداخلة، أبرزها غياب الأعلام المبدعين، بحكم تقدم السن أو الوفاة، وعدم ظهور أصوات جديدة ذات مواهب إبداعية عالية تملأ الفراغ الذي أحدثه غياب الأسماء الأخرى.
لكن مهدي لا يعتقد بأن للرواية والكتابة الروائية علاقة بهذا الموضوع. فغالبية الشعراء الذين تخلوا عن الشعر واتجهوا لكتابة الرواية هم ذوو مواهب أدبية ضعيفة أصلا، فلم يفلحوا في كتابة أعمال روائية مهمة، وكانت حظوظهم في الرواية كحظوظهم في الشعر أو أدنى.
ويرى أنه إذا كان ثمة شاعر مهم أو أكثر قد حاول أن يجرب حظه هو الآخر في ميدان الكتابة الروائية فإننا لم نر منه حتى الآن عملا يستحق الاهتمام.
هذا وليس في وسعه الحكم على ما يخبئه لنا المستقبل فتلك مجازفة لا يجرؤ عليها.
ويقول الناقد والشاعر محمد صابر عبيد إن الشعر الآن في العالم بأسره يتراجع قياسا بالرواية على سبيل المثال، لأنّ الرواية أكثر تداولا وانتشارا واستجابة لطموحات مجتمع التلقّي على اختلاف طبقاته، والعراق بلا أدنى شكّ جزء من هذا العالم حيث تتسيّد الآن منصّات التواصل الاجتماعيّ المشهد بقوّة هائلة.
ويضيف عبيد “لعلّ الشعر العراقيّ قد شهد أوج تألّقه منذ خمسينات القرن الماضي على جيد جيل الروّاد وما تبعه من أجيال، ومنذ انتقال العالم نحو الألفيّة الجديدة بما رافقها من تغييرات وتطوّرات وأحداث كبيرة انحسر دور الشعر، فضلا عن التراجع الذي يعيشه العراق في مختلف مرافق الحياة من أبسطها إلى أعقدها”.
ويرى أن ذلك كلّه أسهم في أن يكون الشعر آخر شيء في سلّم الأولويات، وانطفأت جذوة العناية بالشعر كلّه ولم يعد صالحا للتداول على مستويات عديدة، وربّما اكتفى بحضوره الخجول في قاعات الدراسة الأكاديميّة، يقابله إقبال منقطع النظير نحو الرواية لأسباب في الغالب غير فنيّة وغير جماليّة، وهو ما ينطبق على كثير من بلدان العرب بلا استثناء.
الشعر نخبوي
يرى الشاعر محمد تركي النصار أن صوت الشعر العراقي يظل قويا ومميزا منذ انطلاق حركة التجديد في أواخر أربعينات القرن الماضي على أيدي السياب ونازك والبياتي، مرورا بتجربة سعدي يوسف والأصوات الستينية والسبعينية والثمانينية، حيث كانت التجربة الشعرية مرتبطة بمتغيرات الواقع السياسي والثقافي، وتمثّل بالنسبة إلى الشاعر والقارئ معا قضية مهمة يُثار حولها الجدل، وتُسلط الأضواء، وتُقام النشاطات والحلقات الدراسية بوصفها أمرا مهما ومؤثرا.
ويتابع النصار أن “ذلك كان قبل ثورة المعلومات والانفتاح التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وما أحدثه ذلك من سرعة وتغيير حادين في طبيعة النظر إلى القضية الثقافية عموما، والأدب بشكله الاكثر شيوعا لدينا وأعني به الشعر”.
ففي العقود الثلاثة الأخيرة تراجع دور الشعر في التأثير على مسار الحدث السياسي وتفاعلاته الاجتماعية وصار قضية شخصية لايعول عليها بالنسبة إلى من يتحركون في الفضاء الواقعي بكل التحديات والأسئلة المطروحة عن جدوى الشعر وأهميته في الوقت الذي تزداد وتتنوع مصادر المتعة والمعرفة ويضيق وقت الجمهور الذي لم يعد متخصصا ولا متوفرا على ثقافة نوعية في مجال الأدب وشكله الأكثر صعوبة وهو الشعر.
ويؤكد النصار أن الشعر الجاد صار نخبويا أكثر من أي وقت مضى، وقل عدد القراء، وباستثناء بعض المؤسسات الأكاديمية الوفية لتقاليدها، وهي قليلة جدا لدينا، لم يعد الاهتمام يصل إلى حده الأدنى. والقارىء يبحث الآن عن الوسائل السريعة معرفيا وجماليا.
ويوضح أن ما يقوله لا يعني خفوت صوت الشعراء الحقيقيين، لكن المسافة صارت طويلة بينهم وبين القراء للأسباب والعوامل التي أشار إليها. ولا يظن أن انحسار دور الشعر مرتبط بالتوجه لكتابة الرواية، خصوصا أن عدد الشعراء العراقيين المشغولين بهذا الموضوع قليل بشكل عام.
ضعف الشعراء
وتتساءل هناوي “كم من شعرائنا وشواعرنا يتحقق في عطائهم ذلك فينطبق عليهم هذا التوصيف؟”.تقول الناقدة نادية هناوي “ليس لتجربة شعرية أن تتبلور واضحة المعالم سوى تلك التي أمدتها الموهبة بالأصالة، ومنحها التمرس والمران الطاقة التي بها يستمر الشاعر، متجددا في شعره وحيويا في قصيدته، فلا يكرر نفسه ولا يجتر إبداعه”.
وتجيب على تساؤلها “بالطبع لن نحتكم في الإجابة إلى الكم لأنه ليس مقياسا لأصالة التجربة الشعرية، كما لن نحتكم إلى ما يُكتب من نقود أو شبه نقود تفصّل تفصيلا على وفق مقاسات الهوى والمزاج حبا وكرها، أو بحسب مؤديات المصلحة الآنية وغير الآنية، وإنما نحتكم إلى الفاعلية الجمالية التي تجعل الشعر يسري كالنار متغلغلا في تضاعيف الحياة الراهنة ليكون جزءا منها، يساهم معها في دقائق آلام أفرادها وكليات تحدياتها”.
وتتابع قولها “على وفق هذا الاحتكام الأخير تكون المحصلة مخيبة، فبالرغم من الكثرة الكاثرة من شعراء العمود وغير العمود، فإن لا تجارب شعرية بالوصف الذي قدمناه سوى بضع يسيرة لا تتعدى أصابع اليد”.
وتنفي هناوي أن يكون سبب ذلك سطحية كثير من المحاولات الشعرية التي قد يبدأ معظمها قويا، لكنه سرعان ما يذوي فتنتهي شاعريته سريعا، بل يكمن السبب في طبيعة متغيرات حياتنا سرعة أو ركودا، فلا تتقدم إلا لتتراجع أكثر للوراء. وهو ما يجعل كثيرا من التجارب في حالة استنفار ظرفي واحتدام مصيري، فضلا عن كسل شعرائنا وشواعرنا عن البحث في التراث والتجارب الشعرية العالمية القديمة والمعاصرة عما هو جديد ومغاير.
وتلفت إلى أن ركود القصيدة العربية الراهنة بحيوية الرواية مجرد شماعة نحاول عبرها أن نجد الأعذار للشاعر، وليس للقصيدة التي لن تضعف بضعف الشعراء، ولن تغيب بكثرة الروايات، ثم لماذا نعتذر للشاعر وهو يعجز عن اتخاذ القصيدة غاية ووسيلة، مبتعدا عن روح الشعر، مغترا بماديات الجوائز وطبيعة معاييرها التي فيها التميز الإبداعي هو آخر ما يُحسب له حساب، مقيدا لا يملك وسيلة بها يحرك القاعدة الجماهيرية العريضة التي منها وإليها تكون لتجربته القوة والشموخ، ومن دونها تضمحل جذوة شعره ويبرد إبداعه مهما كان أصيلا.
يعتقد الشاعر والأكاديمي فهمي الصالح أن الشعر بوصفه سحر اللغة يبقى ذا قيمة أساسية في الحياة الثقافية، حتى وإنْ مرّ بحالات خفوت لصوته وإيقاعه في الذَائقة، كما هو عليهِ اليوم في الساحة الأدبية العراقية، التي تُعاني من اختلالات تراكمية انعكست على نشاطات العقل الاجتماعي، وأصابتهُ بإحباطات جمّة، بحيث أصبح الشعر يمثّل عملية ذاتية فردية خالصة بأَكثر مما هو عملية نتاج ثقافي موجّه بفاعلية نحو محاكاة الواقع، والارتقاء به نحو الجماليّات.
ولا يرى الصالح أن ثمة انتقالا ديناميكيا محسوبا بالتمام أَمام الكاتب للانتقال الاختياري من الشعر إلى الرواية أَو بالعكس، فللشعر طقوسه وآلياته الكتابية التي تختلف عن طقوس وآلياتِ الكتابة الرِّوائيّة، خاصّة أن الجنسين يتفارقان في الدلالة والمعنى والوصف، فالشعر يمثّل حالة استلهامية منطلقة، في حين الرواية عملية استيعابية وهندسة عقلانية تدريجية، محكومة بضوابط منطقية. ومن ثم يمكن للشاعر الانتقال إراديا إلى كتابة الرواية، لكنه غير متحكّم إِراديا بالعودة إلى الكتابة الشعرية متى شاء أَو رغب.
وينهي الصالح حديثه قائلا إن الواقع شاسع لا يكفيه الشعر ولا الروايات ولا القصص ولا المسرح ولا الفنون، وإِلى جانب ذلك يمثل الواقع دائما أمام الكاتب واقعا اقتراضيا أو ممكنا جديدا، تستقطب معطياته قصائد تترى وروايات تترى، فلا يوجد ما يعرف بـ”التَّخلي”.
يذهب الشاعر علي نوير إلى أن الشعر العراقي اليوم لم يخفت صوته، ربما تغير إيقاعه، إذ أنّ قصيدة النثر، الأكثر شيوعا منذ عقود، وبما تمتلكه من خيارات غير محدودة في ضبط المسافة المطلوبة بينها وبين المتلقّي جعل خطابها أصفى، ومحمولاته أكثر مَدعاة للتأمل، وذلك من خلال احتكامها لبلاغة الصورة والمجاز البعيد، بعد أن ابتعدت، في نماذجها الأرقى، عن الضوضاء والثرثرة، ولكن بإضاءة أشدّ.
ويضيف نوير أن ما نظّنه خفوتا في الشعر العراقي اليوم قد يعود سببه إلى ارتفاع أصوات الآخرين والأشياء من حوله، وإلى عنف الوقائع الجارية من حروب ونزاعات وما تركته من خراب عام اتّسع ليشمل بلدانا بأكملها وليس العراق وحده.
ولا غرابة، في رأيه، أن يعتقد بعض شعرائنا بأنّ الرواية هي الأقرب، الآن، إلى قلب الأحداث للإحاطة بكلّ هذه الاختلالات في القيم والمعايير، وما نتج عنها من خراب وقتل للأحلام والعبث بأمن الإنسان ومصيره، هذا فضلا عن الاعتقاد السائد بأنّ الرواية اليوم هي الأقرب لمزاج المتلقي.
ويشير إلى أنه قد لا تكون هذه الأسباب كافية لمثل هذا التحوّل المُلفِت، فثمّة أسباب أخرى تتمثّل بالجوائز المُغرية والوعود بطباعة فاخرة وانتشار لائق، لكن كم من الشعراء الروائيين يا تُرى سيبقى مع الرواية بعد زوال هذه الأسباب؟ وكم منهم ستتاح له الفرصة للعودة مرة ثانية إلى الشعر؟ وهل بمقدور أحد منهم أن ينجح في التواصل مع الإثنين معا بالحماس ذاته؟
ويخلص نوير إلى أن الشعر سيبقى إلى زمن غير منظور، على الرغم من كلّ ما سبق، العصب الحسّاس في وجدان هذه الأمّة وهويتها الفارقة، وستبقى للشعر فرسانه.