بيتر ميمي.. مخرج دراما سياسية تمزج الواقع بالخيال

قبل نحو عشر سنوات شهدت السينما المصرية واحداً من أسوأ أفلامها في العصر الحديث، وكان يحمل اسم “سبّوبة”، قدمه آنذاك مخرج مغمور يُدعى بيتر ميمي، وقال الجمهور والنقاد وقتها إن الفيلم فقير من الناحية الإنتاجية وتم طبخه في عجالة وأنه لا يستحق حتى المشاهدة.
الغريب أن ميمي أعلن تأييده لوجهات النظر التي تعرضت له بالنقد وتحدثت سلبا عن الفيلم، لكنه طالب الناس بأن يلتمسوا له الأعذار، فهذه تجربته الأولى في الإخراج الفني، ومن الطبيعي أن تشهد أخطاء لا يمكن تمريرها، وتعهد بتطوير ذاته حتى تكون له بصمة واضحة.
دراما استقصائية
مرت الأيام، وأصبح اسم ميمي محفورا في أذهان الجمهور بعد النجاحات التي حققها في إخراج الأعمال الفنية ذات الأبعاد الأمنية والسياسية، وأحدثها مسلسل “الاختيار 2” بطولة كريم عبدالعزيز وأحمد مكي، والذي عرض في الموسم الرمضاني، وناقش بطولات وتضحيات رجال الشرطة المصرية خلال فترة ما بعد سقوط حكم الإخوان، ورصد العمليات الإرهابية التي نفذها الجناح المسلح للجماعة. وقد استحوذ على النسبة الأكبر من المشاهدات في مصر، بسبب الفكرة البراقة وأداء الفنانين المشاركين في العمل، بجانب طريقة الإخراج الفريدة، لأن ميمي نجح في المزج بين المشاهد التمثيلية والأحداث الحقيقية بطريقة مبتكرة أضْفت على العمل المزيد من المصداقية والإثارة.
من المخرجين القلائل الذين كسروا قاعدة إخفاق الأجزاء الثواني من المسلسلات، وعدم تحقيقها نجاحات، مثل الأجزاء الأولى، فقد اعتاد وضع إستراتيجية تعتمد على إثارة الجمهور من أولى حلقات الجزء الثاني، مع بدايات غير متوقعة تجذب الشريحة الأكبر من الجمهور وتجعلها تصاب بالذهول.
نجح في إقناع الجمهور بأن كل مشهد في الجزء الثاني من “الاختيار 2” كان حقيقيا، وليس من خيال الكاتب، حتى اقتنع أغلب المشاهدين بأن العمل برمته أشبه بتحقيق استقصائي يتم عرض أحداثه بالصوت والصورة، وكان طبيعيا أن تصل رسالة المسلسل إلى الناس كما ينبغي أن تكون وبالطريقة المطلوبة.
وتهدف دوائر صناعة القرار في مصر من وراء إنتاج الأعمال الأمنية إلى تجييش الرأي العام ضد الإرهاب، وإظهار التحديات التي تتعرض لها أجهزة الدولة جراء تهديدات الجماعات المتطرفة، وضرب أيّ تعاطف مع الإخوان والتنظيمات المتناغمة معها، وإبراز البطولات التي قدمتها أجهزة الأمن لتثبيت ركائز الاستقرار.
انتماؤه إلى الديانة المسيحية لم يمنعه من التمسك بإبعاد كل ما هو إرهابي أو متطرف عن الإسلام، وحصر التشدد في أشخاص وتنظيمات بعينها تتاجر بالدين، مع الإصرار على تقديم العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر بشكل وطني
وقع الاختيار على ميمي ليكون مخرج الأعمال الفنية التي لها دلالات ورسائل سياسية، وأدى المهمة بنجاح، ليس لكونه عدوا لكل ما يتعلق بالإسلام السياسي، بل لأنه موهوب في التأليف والسيناريو والإخراج وانتقاء الممثلين وتوظيفهم، ويعي جيدا الرسالة التي تريد الدولة تقديمها للجمهور من وراء أي عمل فني دون مبالغة.
ورغم انتمائه إلى الديانة المسيحية يتمسك في كل أعماله بإبعاد كل ما هو إرهابي أو متطرف عن الإسلام، ويحصر التشدد في أشخاص وتنظيمات بعينها تتاجر بالدين، ويصر على تقديم العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر بشكل وطني.
يجيد التركيز على التفاصيل الدقيقة لإضفاء المصداقية على العمل، فقد تراه يدمج مشاهد المسلسل في المشاهد الواقعية بنفس الملابس التي كان يرتديها الأبطال الحقيقيون، حتى يتأكد الجمهور من أن ذلك حدث بالفعل.
قبل البدء في تصوير أي عمل يأخذ وقتا طويلا في انتقاء الأماكن ومعرفة زوايا الكاميرات، فهو من هواة التصوير بطريقة المراسل الإخباري، خاصة في المشاهد التي تتطلب جهدا وتحتاج إلى حركة كثيرة، مثل المطاردات الأمنية والتفجيرات، وهذه يتمسك بيتر ميمي بأن تكون حقيقية بمساعدة قوات الأمن، مهما كانت التكلفة.
لا ينكر أنه أكثر المخرجين المعاصرين الذين ساعدتهم وزارة الداخلية المصرية، وسهلت له كل شيء لينجح في مهامه الإخراجية، من عربات شرطة إلى ضباط وجنود ومفرقعات، والسماح له بالتصوير داخل غرف أقسام الشرطة والسجون والمستشفيات العسكرية، ما يعزز الفكرة التي صارت مأخوذة عنه بأنه مخرج الفن الأمني.
وإذا كانت مثل هذه الأعمال تواجه بانتقادات من معارضين للسلطة، بدعوى تضخيم بعض الأحداث، فإن ميمي لا يتأثر بكل ذلك، ولا يترك صغيرة أو كبيرة إلا ويرد عليها بالحجة والدليل ليثبت صدق المشهد، إلى درجة أن حلقات “الاختيار 2” أصبح يُدرج فيها التاريخ والمكان الحقيقيين للحدث الفعلي وليس التمثيلي.
صديق الفنانين
ما يسهّل مهمة ميمي في الخروج بأي عمل يقدمه بطريقة مبتكرة أن أغلب الفنانين الذين يشاركونه يتعاملون معه كصديق شخصي، أكثر من مجرد مخرج يوجههم وقت التصوير، ويتمسك بوجود كيمياء مشتركة بينه وبين الممثلين بعيدا عن لغة المصلحة والتعامل بمنطق المادة، وهو ما ينعكس إيجابيا على العمل ككل.
ليس مخرجا دكتاتورا كما يحلو لبعض رموز الإخراج أن يكونوا، ولا يفرض وجهات نظر على المنتجين والممثلين وباقي فريق العمل، ويميل بشكل أكبر إلى ديمقراطية الرأي واستطلاع وجهات النظر أثناء التصوير، وهو مستمع جيد للنقد، ويتعلم من أخطائه، ما جعله شخصية محبوبة يستريح كل من يعمل معها ولا يشعر بالملل.
من الطبيعي أن تنعكس هذه الروح على المنتج النهائي الذي يصل إلى الجمهور، لأن بيتر ميمي اعتاد أن يوسع المسؤولية على الجميع، مثل الفنان والمؤلف والمنتج والسيناريست وعمال الكاميرات وغيرهم، ويتعامل مع هؤلاء باعتبارهم الأساس، ما خلق حالة خاصة بينه وبين من يعملون تحت قيادته، ويَعتبر الكل أساتذة إلا نفسه.
يقول عن ذلك “من المهم للغاية أن يكون مخرج العمل وكامل أعضاء فريق الفيلم أو المسلسل يتعاملون بلغة الصداقة، وقتها ستجد الجميع يأتي للتصوير وهو في قمة الراحة النفسية، وعندما يكون المخرج محبا للممثلين سيعرف جيدا كيف يقدمهم للناس في أبهى صورة، ويحذف كل ما يضرهم، أو بمعنى أصح يبرزهم في أفضل صورة ممكنة”.
الكيمياء الموجودة بين ميمي والفنانين تبدو حاضرة إلى حد بعيد مع المنتجين أيضا، فهو تقريبا صار المخرج المفضل لشركة الإنتاج التي تهيمن على المهنة في مصر، وهي “سينرجي” المملوكة لجهات حكومية، وأغلب أعماله الأخيرة كانت معها، أفلاما أو مسلسلات، لأنه يفهم جيدا الرسالة التي تريد توصيلها، وينفذها بطريقة محكمة.
ميمي لا ينكر أنه أكثر المخرجين المعاصرين الذين ساعدتهم وزارة الداخلية المصرية، وسهلت له كل شيء لينجح في مهامه الإخراجية، من عربات شرطة إلى ضباط وجنود ومفرقعات، وسمحت له بالتصوير داخل غرف أقسام الشرطة والسجون والمستشفيات العسكرية
تهتم شركة الإنتاج بالمضمون والرسالة على حساب العوائد المادية، فما يعنيها أن يؤدي العمل الغرض المطلوب منه سياسيا وأمنيا واجتماعيا، وميمي بطبيعته لا يهتم بالنواحي المادية، فالمهم أن يحتل العمل المكانة الأولى، ويرفض بشكل قاطع أن يجد نفسه في مرتبة ثانية أو ثالثة، ولديه استعداد لتحطيم المستحيلات لتحقيق ذلك.
أهم ما يميز ميمي عن الكثير من أبناء مهنة الفن في مصر أن لديه إمكانيات خاصة في إعادة اكتشاف النجوم لأنفسهم مرة أخرى، والكثير منهم أوشكوا على الأفول والاختفاء عن الأضواء، وبعد التعاون معه اكتشفوا أن بداخلهم طاقات فنية هائلة، لم يستطع باقي المخرجين إظهارها رغم مسيرتهم الطويلة.
من هؤلاء الفنان أمير كرارة الذي كان يفكر في الاعتزال والسفر خارج البلاد، بعدما أخفقت بعض أعماله الأخيرة، حتى اختاره ميمي ليكون البطل في مسلسل “كلبش”، وأدى فيه كرارة دور ضابط شرطة يحارب الفساد ويتصدى للتطرف والإرهاب، ليحصل المسلسل على أعلى مشاهدة باعتراف الجمهور والنقاد.
نجح ميمي في تغيير شكل وأسلوب وشخصية كرارة بشكل جذري، وقدمه بطريقة كما لو كان الجمهور يعرفه لأول مرة، وهو ما حدث مع الفنان أحمد مكي الذي شارك في بطولة مسلسل “الاختيار 2”، وظل طوال مسيرته يقدم الفن الكوميدي الساخر، لكن ميمي جعل منه شخصية جادة وصارمة بطريقة مغايرة لكل الأدوار التي قدمها عندما أدى دور ضابط يحارب الإرهاب.
الشق الأهم أنه من المخرجين الذين ليس لديهم عقدة العمل مع الكبار فقط، أو يتمسكون بانتقاء ممثلين من الصفوف الأولى لضمان نجاح العمل السينمائي أو الدرامي، بل يتمسك في غالب أعماله الفنية بتقديم وجوه جديدة للجمهور.
قد يكون اقتناع ميمي بحتمية الاهتمام بالمواهب الجديدة في كل أعماله مرتبطا بحداثة سنه التي لم تتخط 34 عاما، واقترابه من أحلام وطموحات هذه الشريحة من النجوم الذين يتشوقون إلى أي فرصة للتعبير عن أنفسهم، في ظل تجاهل باقي المخرجين لهم، وتوجيه الاهتمام الأكبر لكبار المهنة، باعتبار أن الاعتماد على الشباب في أي عمل قد يكون مغامرة غير محسوبة العواقب.
تقنيات هوليوود
عندما سُئل عن إصراره على الاستعانة بوجوه جديدة رغم عدم تحقيقها إيرادات أو جماهيرية، أجاب بأن هذا الكلام غير صحيح، لأن المستقبل لهذه الوجوه، ولا يجب أن تكون المهنة حكرا على أحد، ولو لم يتم تقديم الفنانين الجدد للجمهور مع غياب واختفاء نجوم من الصفوف الأولى سيأتي يوم يتم فيه تفريغ المهنة من الممثل الكفء.
يدين له الكبار وحديثو العهد بالفن بأفضال كثيرة، وينظرون إليه باعتباره الأب الروحي لهم، رغم أنه ما زال في بدايات نجوميته الإخراجية، لكن الغالبية تتعامل معه باعتباره صار النجم الأول في مهنة الإخراج، بدليل أنه منذ 2017 وأفلامه ومسلسلاته في المقدمة لاعتماده على تقنيات عالمية في التصوير.
يميل إلى محاكاة مشاهد الأكشن على طريقة أفلام هوليوود، وهو ما شجع ممثلا عالميا مثل سكوت آدكينز الشهير ببويكا على أن يقبل بالمشاركة معه في فيلم “حرب كرموز” الذي كتبه وأخرجه ميمي بنفسه وتدور قصته في عهد الاحتلال البريطاني لمصر، حيث قام ضابط إنجليزي باغتصاب فتاة وتم اعتقاله ويقتحم الجيش الإنجليزي قسم الشرطة وتدور معركة بين الطرفين.
صحيح أن الفيلم يصنف ضمن السينما التاريخية، لكن طريقة الكتابة والإخراج وأسلوب الأكشن الذي اعتمده جعلا الجمهور يتعاطى مع العمل بصدق، لأنه أضفى صبغة إنسانية على الفكرة، حتى جعل الناس يعيشون اللحظة ويتفاعلون مع الحدث ولا يشعرون بالغربة أو الملل من النص التاريخي.
يصعب فصل نجاحات ميمي في زمن قياسي، وإصراره على إثبات نفسه كمخرج موهوب يفكر دائما خارج الصندوق، عن التحديات الصعبة التي تعرض لها في بدايات حياته، وسخرية البعض منه ومطالبته بالاعتزال المبكر، لأنه دخيل على الفن ولا يمتلك أدوات تمكنه من خطْو خطوة واحدة إلى الأمام، لكنه اجتهد وصبر وتحدى الظروف وقرر المضي قدما في الطريق ذاته.
ميمي يميل إلى محاكاة مشاهد الأكشن على طريقة أفلام هوليوود، وهو ما شجع ممثلا عالميا مثل سكوت آدكينز الشهير ببويكا على أن يقبل بالمشاركة معه في فيلم “حرب كرموز” الذي كتبه وأخرجه ميمي بنفسه وتدور قصته في عهد الاحتلال الإنكليزي لمصر
أمام اتهامات الفشل كان يتمسك بأن يكون شخصية ملهمة لكل شاب يمكن أن يستسلم أمام الفشل والإحباط والتحجج بالظروف، فهو الذي درس بكلية الطب جامعة القاهرة، والتحق بالعمل طبيبا في مستشفى قصر العيني، وبعدها تم تعيينه معيدا بمعهد الكبد، لكن أحلامه في الإخراج كانت تراوده طوال الوقت.
رغم أن العمل بمهنة الطب حلم أغلب الشباب والأسر في مصر، لكنه اتخذ قرارا باعتزاله مبكرا، والتحق بمعهد السينما، ليدرس الإخراج والتأليف وكل ما يرتبط بمهنة الفن، وهذه كانت مجازفة، لكنه تمسك باستكمال الطريق، ثم تخرّج وبدأ بصناعة بعض الأفلام القصيرة، وبعدها قدم أفلاما دون المستوى.
لم يكن يستطيع الإنفاق على الإخراج، حتى شركات الإنتاج كانت تخشى التعاون معه ولم تساعده بميزانيات معقولة، وخرجت بعض أعماله الفنية رديئة وفقيرة في البداية، فاضطر إلى الاعتماد على بعض أصدقائه للحصول على المال والوقوف على قدميه والتمسك بتحقيق حلمه.
في الثالث من يوليو 2017 كتب على صفحته في فيسبوك “صديقي الفاشل، أنت أكيد مشوفتش إحباط وفشل أكتر من اللي أنا شفته في حياتي، بعد ما ضيعت سبع سنوات في كلية طب وأصبحت معيدا في معهد الكبد قدمت استقالتي عشان أعمل ثلاثة أفلام أفشل من بعض، وأكتر واحد في الدنيا اتشتم بس مكنتش مظلومْ، الأفلام دي فعلا كانت فيها مشاكل”.
أربع سنوات فقط كانت فاصلة بين المكانة التي يحتلها ميمي حاليا وحديثه عن محاولات إحباطه وقتل روحه المعنوية بالتشكيك في قدراته، ما يعكس أنه ليس من المخرجين الذين حققوا شهرة واسعة بالصدفة أو العلاقات والوساطات المنتشرة في الوسط الفني، بل لأنه كان موهوبا وواعدا لكنه لم يجد الفرصة.
أثبت المخرج الثلاثيني أن الموهبة وحدها تفرض نفسها وتحطم كل القيود، فلا هي بالسن ولا يسهل شراؤها، لذلك صار كبيرا في وقت قياسي يترقب الجمهور أعماله، ويحلم أي فنان بالعمل تحت قيادته لإدراكه جيدا أنه سيظهر في أبهى صورة، ومهما كان تمثيله تقليديا فإن بيتر ميمي سيجعله في قمة تألقه.