المشهد الثقافي في الأردن.. "كلّ يغني على ليلاه"

فاعلون ثقافيون: وزارة الثقافة لا يمكنها بمفردها إصلاح المشهد.
الأربعاء 2021/05/19
مواهب متعددة تحتاج إلى دعم أفضل

ثمة الكثير من المبادرات الفردية والمؤسساتية اليوم في الأردن تدعو إلى تقديم الدعم الذي يحتاجه مشهده الثقافي بشقيه الفني والأدبي. لكن كيف يمكن تقديم هذا الدعم حسب رأي الفاعلين الثقافيين في البلد؟ “العرب” استطلعت حول هذا الموضوع آراء عدد من الكتّاب والفنانين الأردنيين، المشهود لهم بالحضور المتميز على أصعدة أدبية وفنية مختلفة.

في الأردن الكثير من الدعوات الفردية والمؤسساتية، ليس آخرها دعوة ملتقى النهضة العربي الثقافي بعمان، التي تحفز على بذل المزيد من الجهود لتقديم الدعم الذي يحتاجه المشهد الفني والثقافي في الأردن.

لكن الدعوات إلى دعم القطاع الثقافي تتطلب بداية الوقوف على ما يعانيه وتصور الحلول البديلة الناجعة لتهيئة المجال أمام بلد يزخر بإرث ثقافي عريق وبمبدعين مميزين في مختلف المجالات.

الثقافة والدعم

محمد عبيدالله: نفتقد لمؤسسات أهلية ومدنية تساهم في تماسك الحركة الثقافية
محمد عبيدالله: نفتقد لمؤسسات أهلية ومدنية تساهم في تماسك الحركة الثقافية

يرى الناقد محمد عبيدالله أن الحركة الثقافية في الأردن تضم، كما في أي بلد، أطيافا واسعة من المكونات والمستويات، وهي تحتاج إلى أن تؤخذ على محمل الجد، وإلى أن تؤكد حيويتها ودورها بعيدا عن الإحباط واليأس الذي يصيبنا جراء الممارسات غير الثقافية التي تحيط بنا من كل جانب.

هناك دعوات لدعم القطاع الثقافي، ولكن على أرض الواقع ليس هناك دعم حقيقي، والمثقفون الجادّون في معظمهم يواجهون مصيرهم فرادى، إلاّ أنهم يتشبثون بأسباب بقائهم بعيدا عن المؤسسة.

ويضيف “في مشهدنا الثقافي والفني اليوم ‘كلّ يغني على ليلاه‘ بعدما انفرط العقد تماما، وصرنا نفتقد إلى المؤسسات الأهلية والمدنية القوية التي يسهم وجودها في تماسك الحركة الثقافية. أما المبادرات إذا كان المقصود منها بعض الفعاليات الشبابية المؤقتة، فهي مفصّلة على مقاس المبادرين، وغالبا هناك وراء الأكمة ما وراءها، إلى جانب إسهامها في إضعاف الهيئات الثقافية الرئيسية بدلا من تقويتها”.

ويقر عبيدالله بأن معظم المبادرات الفردية والجماعية تتبنى نوعية معينة من الثقافة، وتعتمد على الدعم الأجنبي غير الوطني، ولها أهداف غير بريئة، وتفتقر إلى الموقف والوعي السياسي الذي يمكن أن يحمي أية مبادرة جادة. وفي المقابل نجد المؤسسات التقليدية التي قادت المشهد الثقافي في العقود الماضية قد تخشبت وأصابها الشلل، ولم تطور بنيتها ولم تراجع توجهاتها ولا أدوات وجودها وحيويتها، ولذلك فالمشكلة اليوم ليست في الدعم أو مقداره أو توزيعه وإنما في التساؤل عن إدارة الحركة الثقافية نفسها، على المستوى الرسمي والشعبي، فهناك سياسة كما يبدو تقضي بإسنادها إلى أشباه مثقفين يعادون الثقافة بمعناها الجوهري، لأنهم لا ينتمون إليها.

ويلفت إلى أن هناك تصنيفا مسكوتا عنه يجري ترويجه ويفيد بأن الثقافة ليست أولولية، وإنما تسبقها أولويات معيشية وسياسية وصحية… إلخ، ويتم الاستنجاد بالثقافة في الأزمات لترويض الرأي العام فحسب، وتذكيره بالمثُل التي دمّرتها المؤسسة نفسها على مرّ السنين، وغالبا ما يستجيب المثقفون على أمل تصحيح الوضع، ولكن شيئا من هذا لا يحدث، وإنما هي مواسم طارئة فحسب.

جلال برجس: يجب تجاوز الشكل الكلاسيكي للدعم ومعاملة الثقافة كضرورة
جلال برجس: يجب تجاوز الشكل الكلاسيكي للدعم ومعاملة الثقافة كضرورة

الدعم في حال وجوده ينبغي أن ينصرف إلى دعم الثقافة النوعية وليس الكمية، بمعنى ليس مهمّا كم كتابا تدعم المؤسسات أو تنشر وإنما ما نوعية الكتب التي يتم دعمها؟ فالكثير من الكتب مضرة بالذوق والأمن الثقافي، وكذلك الحال في دعم الفن أو المسرح أو غيرهما، وللأسف فإن الكثير من الدعم ينصرف إلى الفعاليات السطحية والزائفة.

وينهي حديثه قائلا “الخلاصة أنني أرى أن الدعم في السنين الأخيرة قد ألحق ضررا فادحا بالثقافة الجادة، لأنه نشر ألوانا من الزيف والسطحية تحت مسميات غير حقيقية، وتبددت أموال كثيرة دون طائل. أسهم الدعم الهدّام حسب رأيي في تزييف الثقافة وتراجعها بدلا من الإسهام في نهوضها. قد تكون هذه رؤية سوداوية بعض الشيء، يخفف منها إصرار بعض المثقفين الأفراد، وليس المؤسسات، على الصمود وتقديم إنجازات فردية ملموسة ومؤثرة، وعندما نحصي أو نرصد الإنجازات فإننا لن نتذكر المبادرات التي لم تنتج شيئا ذا بال ولم تترك أثرا، رغم رعايتها والترويج لها من جهات كثيرة، سنتذكر جهود المثقفين العزّل الذين لم يتلقوا دعما من أحد، وسيواصلون طريقهم وعطاءهم دون تعليق شرطه بالدعم الموهوم وغير المجاني”.

ويرى الشاعر والروائي جلال برجس أنه ربما على المؤسسات والأفراد الذين يهتمون بالفعل الثقافي أن يتجاوزوا الشكل الكلاسيكي للدعم، والذي ينصب إما على دعم طباعة الكتب أو على إقامة أنشطة ثقافية، هذه الدعومات لا تؤتي ثمارها في كل الأحيان بعيدا عن التخطيط السليم.

ويضيف “على تلك الجهات أن تضع إستراتيجية قابلة للتنفيذ محتواها يركز على النتاجين الأدبي والفني الجيدين، ويجترح لهما طرقا نحو الفضاء العربي، فإن تحدثنا عن شؤون الكتابة لم تستطع مؤسسة إلى حد الآن أن تجد طريقا إلى القارئ الغربي، وأقصد هنا الترجمة، وإن تطرقنا إلى القطاع الفني الدرامي لا نجد جهة حتى الآن تتكفل بمسار إلى المتلقي العربي، رغم أن الدراما الأردنية كانت سباقة في هذا الشأن”.

جعفر العقيلي: غياب التراكم في العمل الثقافي يجعلنا نبدأ من الصفر دائما
جعفر العقيلي: غياب التراكم في العمل الثقافي يجعلنا نبدأ من الصفر دائما

ويرى برجس أن هناك أمورا كثيرة يجب أن تطرح على الطاولة ليتم النهوض بالفعلين الثقافي والفني بعيدا عن البيروقراطية وعدم التخطيط السليم، ليس فقط من جهة الاستثمار في الثقافة والفن وإنما أيضا لأنهما ضرورة وطنية مهمة.

ويوضح القاص والناشر جعفر العقيلي أن المشكلة الكبرى في موضوع تقديم الدعم للمشهد الثقافي والفني تتمثل في غياب البرامج التكاملية والشمولية بعيدة النظر وبعيدة المدى. وغالباً ما يخضع الدعم وقيمته وآلية تقديمه لمزاج وأسلوب “الفزعة” والانتقاء (اصطفاء وإقصاء)، وهو ما يجعله بلا أثر ملموس على المشهد ومخرجاته.

إن المسؤولية في ذلك لا يمكن أن تقع على جهة دون سواها، فالجميع شركاء بهذا المقدار أو ذاك في تشتيت الجهود وتضييع الفرص. والتكاملية هي الحل، أي أن يجري تنسيق العمل بين المؤسسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية لتعظيم الاستفادة من الدعم الذي يمكن تقديمه (سواء شمل ذلك البنية التحتية، أو المال، أو اللوجستيات، وحتى الدعم الاستشاري والإعلامي).

إن غياب التراكم في العمل الإداري المتصل بالثقافة يجعلنا عرضة للبدء من الصفر دائماً، وهو ما يدعو إلى تعزيز ثقافة المؤسسة، ووضع الخطط الإستراتيجية الشمولية والمرنة والقابلة للتطبيق، والقابلة للمراجعة والتقييم بين حين وآخر لتصويب المسار والوصول إلى المستهدفَات. وإن لم يحصل ذلك فلا تعويل على دعم مهما بلغت قيمته.

النهوض بالمشهد

حسين نشوان: الحركة الثقافية الأردنية جزء من الثقافة العربية الضعيفة
حسين نشوان: الحركة الثقافية الأردنية جزء من الثقافة العربية الضعيفة

يرى الفنان التشكيلي والناقد حسين نشوان أن الحالة الثقافية تمثل انعكاسا للحالة الفكرية والاجتماعية العامة للمجتمع، ويتبدى عليها الوهن والضعف بسبب حساسية الظاهرة التي تتفتح بتوفر الشرط الطبيعي لنموها وازدهارها أو تنكمش بغيابه وإهماله.

وفي رأيه يتأتى مصدر الضعف من اتجاهين، يتصل الأول بالإطار العام للثقافة العربية التي تعاني حالة من التيه والانقسام والشك والقصور والظلية التي تنقاد فيها لأمراض النظام العربي، ومن ثم تصبح جزءا من تلك الأمراض التي تحجّم دورها وتأثيرها الاجتماعي وفاعليتها وقنوات تواصلها الاجتماعي التي تعاني من التشويش.

أما الاتجاه الثاني فيتعلق بالخراب الذي طال المؤسسات برمتها، ومنها المؤسسات الثقافية التي فقدت وظيفتها بسبب التحولات التقنية والفكرية العالمية، وفقدت قدرتها على الفعل المنتج والطليعي (وإن بدت مثل هذه المفردة في الوقت الراهن مدعاة للتندر)، غير أن ما هو مؤكد أن الحركة الثقافية -على ضعفها- لا تزال تشكل الاحتياطي للتغيير.

ومن المؤكد أن الحركة الثقافية في الأردن هي جزء من الحالة الثقافية العربية التي تعاني من الضعف والهشاشة والانقسام والتشظي بسبب ضعف النظام العربي برمته، ومن ثم فإن النهوض بالحركة الثقافية الأردنية يستدعي النهوض بالحركة الثقافية العربية أولا من خلال إصلاح مؤسساتها، لجهة دمقرطتها واستقلالها وارتباطها بديناميات المجتمع وحركته ومرحلته التاريخية، وأن أي نهوض بالحركة الثقافية يحتاج بداية إلى الإصلاح الشامل لمؤسسة الدولة وخطابها وأولوياتها، والاعتراف بأن الثقافة تمثل جزءا من قواعد التنمية وديناميات الإصلاح، ومن ثم فهي تتطلب إدماج المنتج الثقافي في العملية الإنتاجية ومؤسساتها لكي لا تبقى على هامش القطاعات الأخرى.

خالد سامح: الجمود والترهل والشللية والمحسوبيات أبرز مشاكل الثقافة الأردنية
خالد سامح: الجمود والترهل والشللية والمحسوبيات أبرز مشاكل الثقافة الأردنية

ويقول القاص والصحافي خالد سامح “يعاني قطاع الثقافة في الأردن، كباقي القطاعات الاجتماعية المختلفة، من جملة من المشاكل والتحديات، أبرزها الجمود والترهل والشللية والمحسوبيات والاعتماد على العلاقات الشخصية في دعم وتسيير المشاريع والأفكار الجديدة.

وزارة الثقافة الأردنية، وهي المؤسسة التي أُنشئت في سبعينات القرن الماضي، ما زالت حبيسة العمل البيروقراطي، ومحكومة بالروتين الذي يحكم باقي مؤسسات الدولة ووزاراتها، وموازنتها من أقل الموازنات الممنوحة للمؤسسات الرسمية”.

ويذكر أنه قد طُرحت أفكار كثيرة لتطوير أدائها وتفعيل دورها في توفير الأجواء الصحية المناسبة لفعل ثقافي وإبداعي خلاق دون جدوى، حتى ذهب بعضهم إلى اقتراح إلغائها، والاستعاضة عنها بمجلس أعلى للثقافة والفنون لا يخضع لمزاج الحكومات المتغيرة، وتشارك فيه مؤسسات غير رسمية، كما يعهد إليه تنظيم مهرجانات ومؤتمرات ثقافية وفنية على مدار العام، مع انفتاحه على كافة القطاعات المجتمعية. ومن الطبيعي أن تُخصص لهذا المجلس ميزانية محترمة تدعم المشاريع المستحقة بعيداً عن الواسطات والعلاقات الشخصية والتنفيعات.

كذلك أمانة عمّان الكبرى، التي أسست دائرة ثقافية فيها بداية تسعينات القرن الماضي وأحدثت فرقاً كبيرا وأغنت المشهد الثقافي، تراجع دورها خلال السنوات القليلة الفائتة، وقُلصت موازنتها بصورة كبيرة، فألغت الكثير من ملتقياتها، كملتقى القصة القصيرة على سبيل المثال، وانحصر دورها الثقافي حاليا في التعاون الرمزي مع فعاليات ثقافية تنظمها مؤسسات وسفارات أجنبية في عمّان.

وأنهى سامح حديثه بقوله “وعند الحديث عن سبل دعم الأنشطة الثقافية والنهوض بالمشهد الإبداعي لا بد لنا أيضاً من دعوة القطاع الخاص، كالبنوك والشركات التجارية الضخمة، لتقديم الدعم وتبني الفعاليات الثقافية، تماما كما يحصل في الكثير من الدول الغربية، وبالتوازي مع ذلك على الدولة والمشرعين فيها إعادة  النظر في الكثير من القوانين والأنظمة التي تحد من الإبداع الحر، لا بل وتقتله وتحيله في الكثير من الأحيان إلى مرجعيات رقابية أمنية ودينية وعُرفية لتبت فيه”.

15