عصمت داوستاشي لـ"العرب": الفن والصمت لا يجتمعان

الفنان عصمت داوستاشي يتتبع معرضه "الفارس والحصان" بخرائط الكوارث والخسارات والقيود المكبّلة لمسارات الإنسان على الأرض منطلقا من بيئة محلية.
الاثنين 2021/03/29
"الفارس والحصان" رهان على حلم مؤجَّل

تتسم تجربة التشكيلي السكندري المخضرم عصمت داوستاشي بالزخم والثراء والتنوع. فهو فنان شامل يتنقل بخفة بين الرسم والكولاج والنحت والتصوير الضوئي وغيرها، مستلهما الرموز الشعبية ورحيق الحضارة في عصورها المختلفة وملامح البيئة المحلية وطقوس الحياة اليومية بما تشمله من جوانب اجتماعية وعقائدية، في صياغة عالمه الفني المرهف، بحس صوفي طفولي، وهو ما احتواه معرضه الجديد.

يحتفل التشكيلي السكندري عصمت داوستاشي المولود في مارس 1943 بيوم ميلاده بإطلاق معرض جديد له بعنوان “الفارس والحصان” يستمر حتى 3 أبريل في غاليري “آرت كورنر” بحي الزمالك في القاهرة.

تحمل أعمال المعرض اشتباكًا مع الواقع الغائم الملتبس، مصريا وعربيا وعالميا، وعكست في الوقت ذاته رغبة الإنسان الهشة في رمي حمولة همومه في البحر، كحلّ مبسّط للخلاص من معوّقات الطريق وألغام الحاضر وإحباطاته وأسلاكه الشائكة.

وتمثَّل المفتاح السحري للهرب في استحضار فانتازيا الفروسية وظلال الفاتحين كمعابر أسطورية من مناخ قاس قاهر إلى عالم مرغوب، لم يهدر المقاومة بعد، ولم ينسَ التضحيات ومعاني البناء والنماء والإخضرار.

عصمت داوستاشي: تجربة "الفارس والحصان" تحمل في طياتها ما هو أبعد من ذلك

جاءت مجموعة “الفارس والحصان” التي تضمنت قرابة ثلاثين لوحة بألوان الزيت والأكريليك على التوالي، استكمالًا لتجربة عصمت داوستاشي التي افتتحها العام الماضي تحت شعار “لوحة كل يوم”، وانصبّ شقها الأول على جائحة كورونا التي اعتبرها وجهًا من وجوه المِحَن الكبرى، يستثير تحدّيات البشر وطاقاتهم المعطلة إلى أن يقولوا للأزمة “مع السلامة”، كما في أحد أعماله.

مرحلة ملتهبة

في معرضه الجديد الذي استوعب الشق الثاني من التجربة، مضى الفنان في تتبعه خرائط الكوارث والخسارات والقيود المكبّلة لمسارات الإنسان على الأرض، منطلقًا من بيئة محلية في هذه المرة، موسّعًا دائرة التوجس والقلق في الوقت نفسه.

فالخطر الذي كان يومًا بذرة صغيرة، صار شجرة شامخة، ولم يعد الأمر يتعلق بالفايروس المستجد وحده، فثمة في الأفق سلسلة لانهائية من المآزق والعقبات والمنغّصات المُربكة التي تعتري العالم عمومًا، وتطول بمخالبها الشرسة اللحظة الراهنة بمصر.

منحت فكرة اليوميات داوستاشي الفرصة للتعاطي الفني الآني مع ملابسات الأحداث الجارية، فبعدما استغرق في تصوير كورونا على هيئة شيطان مركزي بقرون، يختصر شرور الكون، ويُسمّم الأجواء المحيطة، راح يتقصى شياطين أخرى كثيرة تكبح جماح الفرسان في المجتمع المصري، وتمنع تقدمهم، وتحوّل الحياة إلى تعقيدات ومعارك ومتاهات سوداوية، ولهاث خلف سراب وأوهام.

بالآلية الطفولية ذاتها، القائمة على تقليص الرؤى الكلّية في جزئيات صغيرة باعتبارها المشهد الكامل، لجأ الفنان إلى دلالات الفروسية، والفارس، والحصان، في الموروث الحكائي والشعري والبصري، للتعبير عمّا يدور حاليًا من تعثرات متتالية، تعقبها محاولات نهوض.

وفي الخلفية دائمًا، هناك تعطشٌ جارف إلى صورة البطل المُخَلّص، وثمة تمسّكٌ بدائي بمباهج الملاحم والسير الشعبية، التي تحمل البشارة عادة في الختام بعد نزالٍ طويلٍ ومسالك وعرة وأوقات عصيبة.

يرفض الفنان عصمت داوستاشي تأويل لوحات “الفارس والحصان” على محمل واحد أو اعتبارها ترجمة مباشرة لأفكار وإسقاطات محدودة.

أعمال المعرض تحمل اشتباكا مع الواقع الغائم الملتبس، مصريا وعربيا وعالميا

ويؤكد لـ“العرب” أن بعض إيحاءاتها، وليس كلها، متصل بالفعل بتلك الرغبة في الصمود والتحدي وتجاوز الظروف القاسية والأغلال المقيّدة، وإبراز إحباطات الفرسان في المناخ القاهر ودعاوى إعاقتهم، وتأطير تجليات الفروسية في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها مصر، والمنطقة العربية، والعالم بأكمله.

ويوضح داوستاشي، الذي تعود أصوله إلى جزيرة كريت اليونانية، أن تجربة “الفارس والحصان” تحمل في طياتها ما هو أبعد من ذلك أيضًا، فهي رهان على حلم مؤجَّل لا ينتهي أبدًا بتمكن القائد من أداء مهمته واضطلاع الشعب بدوره على النحو الأمثل رغم المتربصين والأعداء والقوى الخارجية والجماعات الظلامية الداخلية، وهي رفض للنهايات البائسة المطلقة، وإعلان تفاؤلي لتجدد الغرس والزرع وانبثاق الروح من الموات.

ويضيف لـ“العرب” أنها في الآن نفسه معنى مضادّ للخيول والإبل البغيضة التي ظهرت في “موقعة الجمل”، حيث الانقضاض بالجمال والخيول والبغال على المتظاهرين في ميدان التحرير بالقاهرة في 2 فبراير 2011، فيما يشبه معارك العصور الوسطى، وشتان بين تلك الخيول السلبية المرفوضة، والأخرى الإيجابية المنشودة.

وأصعب ما في رهان الفارس والحصان معًا، وفق داوستاشي، تلك التضحيات المبذولة من أجل تحقيق المراد، وبرأيه فإن “الشأن المصري يعاني في مجال الحريات والاقتصاديات، إلى جانب عدم التجانس في المنظومة العامة، ومعوّقات أخرى تلتفّ حول أقدام الخيول والفرسان كالحبال، لكنها لا تنفي حقيقة أن المسيرة مستمرة إلى الأمام، وأن البناء الداخلي الجديد يتشكل حجرًا وراء حجر، وأن ما حفظناه في الحكايات والأساطير له آثار على أرض الواقع، كطوق إنقاذ قد يُمَدّ لغريق”.

لمحة مشرقة

يرى الفنان التشكيلي أن شحنات معرض “الفارس والحصان” موصولة كذلك بمعاناة كبار السنّ الذين عاشوا سنوات طويلة صعبة منذ بداية مشوار ثورة يوليو 1952، مرورًا بثلاثين عامًا من تغييب التنوير والفكر والثقافة وتصدير اليأس في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك (1981 - 2011)، وصولًا إلى آخر محطات يومنا هذا.

ويشير لـ“العرب” إلى أن هذا الجيل الذي يمثله، يتبقى له أمل وحيد؛ هو إهداء شعاع شمس ضاحك، ولمحة مشرقة، إلى أبناء اليوم، لعلهم يتحسسون مستقبلًا مزدهرًا “نتمناه لهم، وإن كنا من ضحاياه”.

الفنان لجأ إلى دلالات الفروسية في الموروث الحكائي والشعري والبصري للتعبير عما يحمله واقعه الحاضر

على الرغم من وضوح الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها في أعمال داوستاشي، فالتعويل يبقى منعقدًا دائمًا على العناصر والمفردات الفنية التشكيلية؛ من خيالات عاصفة وتفجرات لونية وسيولة حركية ونزعة تجريدية وهندسة مرنة في استدعاء الموروث برموزه وأيقوناته الشعبية والمصرية القديمة إلى جانب الزخارف الإسلامية، وتلك التوليفة الجمالية الإشعاعية هي الوقود الشعوري المتدفق الذي يُشعل الأفكار ويخلّصها من ذهنيتها.

يؤكد داوستاشي لـ“العرب” أن الفن والصمت لا يجتمعان، فالواقع لا يزال مليئًا بالسلبيات التي تقتضي إبرازها بالفن، والدعوة إلى تخطيها، من أجل العبور من عنق الزجاجة، واللغة البصرية أقدر من الحروف والكلمات على تعرية اللحظة التي نعيشها، بكل ما فيها من جراح، وتطلعات إلى ما هو أفضل، في الفن وفي الحياة.

ويتابع “من أجل ذلك، لا أتوقف عن المعارض الخاصة أبدًا، التي أسافر بها إلى القاهرة، بعد تخريب الإسكندرية، وتقوقع وزارة الثقافة المصرية على نفسها”.

مصر مصر مصر
مصر

 

15