مشروع قانون للمحكمة الاتّحادية العراقية يثير المخاوف من تكريس الدولة الدينية

الأحزاب الدينية المهيمنة عمليّا على العراق تعمل على إضفاء قوّة القانون على هيمنتها من خلال تثبيت دور لفقهاء الشريعة في المحكمة الاتّحادية العليا، وهو الأمر الذي تعترض عليه القوى المدنية وممثلو الأقليات لما يمثّله من قفزة نحو التأسيس لدولة دينية على الطريقة الإيرانية.
بغداد - تجدّد الجدل في العراق حول إقرار قانون جديد للمحكمة الاتحادية تسعى الأحزاب الدينية الحاكمة لأن تُضمّنه التنصيص على دور لرجال الدين المسلمين في عمل المحكمة وقراراتها، في ظلّ رفض واسع من القوى المدنية وممثلي الأقليات على اعتبار تلك الخطوة تزيد في ترسيخ السمة الدينية للدولة العراقية وتبعدها عن المدنية وتفتح بابا آخر للتشدّد والطائفية، فضلا عن تكريس هيمنة مكوّن بعينه على باقي المكوّنات.
وصوّت مجلس النواب العراقي الأربعاء على ثلاث مواد من قانون المحكمة الاتحادية وأرجأ التصويت على ثلاث مواد أخرى إلى الأسبوع القادم بسبب اتّساع هوة الخلاف بين النواب حولها وانسحاب النواب المسيحيين من الجلسة احتجاجا على ما يتضمّنه القانون من تمييز ضدّ الأقلّيات.
وقالت مصادر عراقية إنّ ممثّلي الأحزاب الشيعية مارسوا ضغوطا وعرضوا إغراءات على المعترضين على تمرير القانون، حتّى أنّ هؤلاء ربطوا تمرير قانون ميزانية الدولة بتمرير قانون المحكمة الاتّحادية.
ويتضمّن مشروع القانون الجديد إضافة أربعة فقهاء في الشريعة وقاضيين إلى المحكمة ليصبح عدد أعضائها خمسة عشر عضوا.
ويعني ترشيح رجال دين لعضوية الهيئة القضائية للمحكمة منح سلطة فعلية لهؤلاء في عملية صياغة القوانين ومطابقتها مع الشريعة الإسلامية وفق قراءاتهم التي لا يمكن أن تكون إلاّ متأثرة بمشاربهم وانتماءاتهم بما في ذلك الطائفية منها.
وتعمل المحكمة التي تمثّل أعلى سلطة قضائية في البلاد وتمتلك حقّ تفسير نصوص الدستور وإلغاء قرارات مجلس النواب وتعتبر قراراتها باتة وغير قابلة للنقض والاستئناف، بموجب قانون خاص بسبب تعثّر إقرار قانون لها جرّاء كثرة الخلافات السياسية حولها.
ويعترض قادة رأي عراقيون ورجال قانون وسياسيون من مختلف المشارب والانتماءات على إقحام رجال الدّين في عمل المحكمة الاتّحادية.
وقال جاسم الحلفي القيادي في الحزب الشيوعي العراقي إنّ إقرار دور لفقهاء الشريعة بموجب قانون المحكمة الاتحادية يخالف مبدأ “أن تكون الدولة مدنية للجميع”، وأنّ الفقرة المتعلّقة بذلك “لا تعزز التنوع الذي يريده الشعب ولا تؤمّن المساواة وإنما تؤكد على الانقسام”.
ويذهب المعترضون على القانون المقترح إلى ربطه بمحاولة استنساخ للنظام الإيراني عبر توطيد سلطة رجال الدين على حساب رجال القانون والسياسة المدنيين، حيث يلعب عدد محدود من الفقهاء دورا محوريا في تحديد الخيارات الكبرى للبلد وصياغة سياساته وإملاء قراراته بطريقة فوقية مسقطة تتجاوز المؤسسات التي يظل دورها أقرب إلى الديكور الذي يضفي مسحة من “المدنية والديمقراطية” على الدولة الثيوقراطية في الأساس.
ويشارك أكراد العراق أبناءَ المكوّنين المسيحي والإيزيدي وغيرهما اعتراضهم على مشروع قانون المحمكة الاتّحادية العليا. وقالت خالدة خليل عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني لشبكة رووداو الإعلامية إنّه “لا يجوز إقحام خبراء الشريعة في أصل المحكمة وإعطائهم حق التصويت (…) كي لا يتحول العراق إلى دولة دينية إسلامية”.
وقال الباحث في مجال حقوق المكونات والأقليات الدينية والقومية فرهاد كاكائي إنّ “المشكلة هي قرار إضافة خبراء وفقهاء القانون والشريعة رغم عدم وجود نقص في هذه الناحية، فهناك قضاة ممن كانت دراستهم كلّها تتمحور حول الشريعة الإسلامية. أما ما لا يعلمه هؤلاء فهو شرائع المكونات الأخرى من إيزيديين وكاكائيين ومسيحيين”، مضيفا “كان الأحرى إشراك خبراء في الشرائع والحقوق وإلا قد يتحول العراق إلى دولة إسلامية”.
كما عبر عن تخوّفه “من أن يقوم القضاة والخبراء بتطبيق الشريعة وفق مذاهبهم”.
ومن شأن قانون المحكمة الاتّحادية أن يفتح في حال إقراره فصلا جديدا من التمييز بين العراقيين على أساس ديني وطائفي. وسبق لرئيس الكنيسة الكلدانية في العراق والعالم لويس ساكو أنّ وجه رسالة إلى رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي داعيا إياه إلى إيقاف مناقشة مشروع قانون المحكمة. وقال في رسالته “لقد فوجئنا بمشروع قُدِّمَ لمجلس النواب لإعطاء صبغة دينية للمحكمة الاتحادية العليا، بتعيين خبراء لها في الشريعة الإسلامية ممن يرشّحهم ديوان الوقف الشيعي والسني، في حين تم إقصاء ديوان أوقاف الديانات المسيحية والإيزيدية والصابئة المندائية”.

وأضاف ساكو أن “هذا المشروع يظلمنا نحن أتباع الديانات الأخرى، بعد كل ما عانيناه من الإرهاب والتهجير والسلب والقتل والاستحواذ على ممتلكاتنا”.
وتجاوزت أصداء إقحام رجال الدين في عملية تشريع القوانين العراقية وتأثير ذلك على مدنية الدولة العراقية حدود العراق لتأخذ بعدا دوليا، حيث كتبت نينا شيا من معهد هدسون أنّ من شأن القانون الذي يعكف البرلمان العراقي على تمريره “أن يربط العراق بالحكم الثيوقراطي لجارته إيران ويقوّض ديمقراطيته الهشة ويعرّض الحرية الدينية وغيرها من الحقوق الأساسية للخطر”.
ولفتت ذات الباحثة المتخصّصة في حقوق الإنسان والدفاع عن الحرّيات الدينية إلى أن القضاة الإسلاميين سيحصلون بمقتضى ذلك القانون على سلطات معززة لاستخدام حق النقض ضد القوانين التي يرون أنها تتعارض مع الإسلام، أي القوانين التي أقرها البرلمان المنتخب.
وتلفت الباحثة إلى الفقرة الثانية من مشروع القانون والتي تنصّ على منح أربعة مقاعد جديدة بالمحكمة العليا لرجال دين إسلاميين للعمل ليس كمستشارين بل كقضاة يتمتعون بسلطة استثنائية من حق النقض إلى ضمان تطبيق حكم دستوري ينص على أنه “لا يجوز سن قانون يتعارض مع الأحكام المقررة في الإسلام”.
واستشهدت الباحثة برأي السياسي المسيحي العراقي جوزيف صليوا الذي يعتبر أنّ صيغة القانون التي يراد تمريرها مستوردة مباشرة من إيران، حيث يكون مجمع تشخيص مصلحة النظام مسؤولا عن تعيين المرشد الأعلى الذي يتمتع بسلطة مطلقة لفرض نظام ولاية الفقيه.
ولا تفصل الدوائر المدافعة عن مدنية الدولة العراقية عملية إقحام فقهاء في تشريع القوانين وتطبيقها عن مساعي الأحزاب الدينية لتوطيد سلطتها في البلاد وذلك بعد أن سقطت هيبتها في عين المواطن العراقي الذي خبر فشلها وعدم جدارتها بقيادة الدولة بفعل النتائج الكارثية لتجربتها في الحكم.
ويقول الخبير القانوني العراقي محمد الشريف “أصبح واضحا أنّ الهدف من وضع خبراء الشريعة الإسلامية في المحكمة الاتحادية العليا وإعطائهم الأولوية في القرار على حساب القضاة، هو الهيمنة على أعلى الهيئات القضائية العراقية وجعلها بيد الأحزاب”.