قصور التشريعات يحول دون مراقبة التمويل الأجنبي للجمعيات التونسية

تونس - أماط تقرير لمحكمة المحاسبات في تونس اللثام مؤخرا عن ملف التمويل الأجنبي للجمعيات واعتبر أنّه يتجاوز الأرقام الرسمية، ما يكشف تقصيرا مستمرا بشأن جدية مراقبة مصادر تمويل الجمعيات بالبلاد، والتي ينشط بعضها في إطار حزبي.
وأظهرت محكمة المحاسبات أن حجم التمويلات الأجنبية التي استفادت منها الجمعيات، وفق المعطيات المتوفرة لديها، بلغت 68 مليون دينار (25.15 مليون دولار) سنة 2017 و78 مليون دينار (28.85 مليون دولار) سنة 2018 في وقت لم تُعلم فيه 566 جمعية الحكومة بتلقيها تمويلات أجنبية المصدر.
وأضافت محكمة المحاسبات في تقريرها الـ32 الصادر مؤخرا أن الأرقام التي توصلت إليها أعلى من تلك التي أوردها البنك المركزي التونسي والتي تقارب 27 مليون دينار (9.99 مليون دولار) سنة 2017 و17 مليون دينار (6.29 مليون دولار) سنة 2018، مبيّنة أن أرقام البنك المركزي التونسي المتعلقة بحجم التمويلات الأجنبية للجمعيات تمثل 41 في المئة من الحجم المتوقع لسنة 2017 و22 في المئة من الحجم المتوقع لسنة 2018.
ولفت التقرير إلى أن الكتابة العامة للحكومة ليست لها الآليات الضرورية للتفطن إلى كل المخالفات المرتكبة بهذا الخصوص وتسليط العقوبات المستوجبة، وهو ما يثبته عدم علمها بتمويلات للجمعيات بقيمة لا تقل عن 31.8 مليون دينار (11.76 مليون دولار).
وخلص إلى أن ضعف متابعة برامج التعاون الدولي من قبل وزارة الخارجية والوزارة المكلفة بالتعاون الدولي ومحدودية التنسيق بينهما أديا إلى عدم تحديد مبالغ التمويلات الأجنبية، وأن وزارة الخارجية لا تتوفر لديها أي بيانات بخصوص التمويلات الأجنبية التي تحصلت عليها الجمعيات.

زهير المغزاوي: هناك تحايل سياسي وبعض الجمعيات اليوم ممثلة في السلطة
وحسب آخر إحصائيات مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات (حكومي) توجد أكثر من 23 ألف جمعية إلى حدود يناير، منها 13579 جمعية تأسست منذ عام 2011.
وتنشط هذه الجمعيات في 16 مجالا، فيما يبلغ عدد الجمعيات الخيرية 7525 جمعية.
وتثير مصادر تمويل الجمعيات العديد من التساؤلات، وهناك من يتهم بعضها بتوظيف التمويل الأجنبي في الحملات الانتخابية للأحزاب واستقطاب الفئات الشعبية الهشة لتعزيز الخزان الانتخابي.
ويرى مراقبون أن النشاط الجمعياتي المدني والخيري “المشبوه” من حيث التمويلات المرصودة يصب في خانة النشاط السياسي لدى بعض الأحزاب.
وطالبت شخصيات سياسية بالتقصي في ملف تدفق المال الخارجي على بعض الأحزاب السياسية والجمعيات على اختلاف صبغتها وأنشطتها، وهي مسألة تُطرح مع كل محطة انتخابية وسرعان ما يتم تغييبها.
وأشار أمين عام حركة الشعب زهير المغزاوي في تصريح لـ”العرب” إلى “أن العديد من الجمعيات التونسية تلقت تمويلات أجنبية حسب شهادات للوزير السابق المكلف بالعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان كمال الجندوبي”.
وكشف الجندوبي في أبريل 2016 أن هناك أكثر من 157 جمعية في تونس يشتبه في علاقتها بالإرهاب. وأوضح أن بعض الجمعيات وقع تجميدها وتمت متابعة الملفات القضائية لبقية الجمعيات.
وأضاف المغزاوي “كثيرا ما تحدثنا حول الموضوع لأنه يحمل نوعا من التحايل السياسي مثل جمعية خليل تونس اليوم الموجودة في السلطة التنفيذية من خلال حزب قلب تونس (حليف حركة النهضة في الحزام السياسي للحكومة)”.
واستنكر النائب البرلماني غياب العقوبات ضد المخالفين قائلا “عمليا لم نر أشياء ملموسة لأي جهة من الجهات ولكن المشهد الجمعياتي لوّث الحياة السياسية وغيّب القيم والأخلاق”. ولفت إلى أن” تقرير دائرة المحاسبات حول نتائج الانتخابات التشريعية في 2019 أثبت تورط أحزاب وتلقيها تمويلات أجنبية، ومكان ممثليها الحقيقي هو السجن ولكن الآن نراهم في السلطة”.

نبيل الرابحي: بعض الجمعيات تُمّول من دول أجنبية وهذا يؤثر في القرار الداخلي
واستطرد المغزاوي “إذا تواصل هذا المشهد ستصبح الدولة فاسدة ولا معنى للديمقراطية التي يتحكم فيها المال السياسي الفاسد”.
وتزداد مخاوف التونسيين بين الفينة والأخرى من تسارع وتيرة تأسيس الجمعيات تحت غطاء حزبي وبأموال مشبوهة، ما يعزز فرص ارتباطها بجماعات وتنظيمات إرهابية ويجعل من الشأن الداخلي ومؤسسات الدولة مخترقة من أطراف خارجية.
وتمثل الجمعيات الموجودة في إقليم تونس الكبرى (العاصمة تونس والمدن المجاورة لها) حوالي 32 في المئة من العدد الجملي للجمعيات، وكان التمويل الأجنبي أحد مصادر الدعم المتاحة للجمعيات بموجب المرسوم عدد 88 لسنة 2011.
وأفاد المحلل السياسي نبيل الرابحي بأن “تمويل الجمعيات لا يجرّمه القانون”، مستدركا “لكن الإشكال في العمل الجمعياتي الذي تقف وراءه الأحزاب. كما أن العمل السياسي على أرض الواقع فيه الكثير من المال الفاسد”.
وتابع في تصريح لـ”العرب” “محكمة المحاسبات وضعت الإصبع على الداء والمشكلة في القضاء والتشريع”، لافتا إلى أن “البطء في الإجراءات القضائية يحول دون إثبات ذلك على غرار تقرير دائرة المحاسبات حول القائمات الانتخابية الذي ظهر بعد فترة طويلة من الإعلان عن النتائج”.
ولم ينف الرابحي الدور الفعّال لبعض الجمعيات في الكثير من الأنشطة على غرار الممارسة الديمقراطية وحقوق المرأة وآليات العمل السياسي، مستدركا “وقعت طفرة في تأسيس الجمعيات منذ 2011 من 9 آلاف جمعية إلى أكثر من 23 ألف جمعية حاليا وأكثرها ذات توجهات يمينية، وهناك قرابة 15 ألف جمعية يصعب التثبت في مصادر تمويلها”.
واقترح جملة من الحلول للحدّ من تدفق المال الخارجي على الجمعيات التونسية، خاصة أن هناك بعض الجمعيات تمول مباشرة من دول أجنبية وهو ما من شأنه أن يؤثر في القرار الداخلي حسب تعبيره.
وخلص بالقول “لا بدّ من الاتعاظ من أخطاء الماضي والتفكير في حلول تشريعية أنجع تقتضي إصلاح المنظومة القضائية المهترئة والبالية والتفكير بجدية في منظومة تشريعية جديدة”.