دروس من يد مرتعشة

لم يتوقف العم محفوظ عن المطالعة. تعلمت منه الكثير. وأهم ما تتعلمه أن لا تغتر بما تعرفه.
الأربعاء 2021/01/27
التفكير خارج صناديق الوكالات

رحل عمنا محفوظ. هكذا كنا نسميه في الصحيفة. محمد محفوظ الكاتب المصري الساخر والرسام وأحد أهم المؤسسين لصحيفة “العرب” في السبعينات.

ذكراه تبقة بيننا
ذكراه تبقى بيننا

عاصرته متأخرا. عملت في “العرب” مدققا أولا ثم محررا مبتدئا. كان المرض قد أخذ الكثير من الأستاذ محفوظ يوم تعرفت عليه مطلع التسعينات. كنت أذهب مبكرا إلى الصحيفة لأشتغل على تحرير الملاحق، وكانت هي الفرصة الصباحية التي تتاح لي للتعرف على هذه الشخصية الفريدة.

كانت يداه ترتعشان بسبب المرض. صار من الصعب عليه الكتابة، لكنه كان مستمرا في الرسم. عندما دخلت أجهزة أبل ماكنتوش في إنتاج الصحيفة، فرح كثيرا. رجل من جيل الستينات تلقف الكمبيوتر مثل هدية من السماء. أطال الكمبيوتر عمر محفوظ الكتابي لأكثر من عقد. الكيبورد كان أشبه بطوق نجاة لتلك اليد المهتزة بسبب الباركينسون. يضرب الحرف ولا يخطه.

لم يتوقف عن المطالعة. تعلمت منه الكثير. وأهم ما تتعلمه أن لا تغتر بما تعرفه. أول الحكم التي سمعتها منه أن تقرأ 10 ساعات لتكتب ساعة. ربما بمرور الوقت تتحسن النسبة. لكن أعتقد أنها بداية منطقية لكل كاتب. لم يكن يقصد أن تتعامل مع الأمور مثل حصة يومية. لكن كان يقصد كم التراكم المعرفي الذي تحتاجه لكي تصبح كاتبا. حتى لو كان ما تكتب عنه هو مشاهدات يومية بسيطة.

ثم تتعلم منه الصبر. أن يجلس وهو يحارب المرض، لكنه لا يتوقف عن إبداء الرأي بمواضيع الصحيفة وتصميم الصفحة الأولى فيها، سواء في أيام التقطيع والتنفيذ بالورق والشمع، أو في مرحلة لاحقة مع دخول التنفيذ الإلكتروني.

كانت علامته المميزة عمود “سواح” في الصفحة الأخيرة. كان العم محفوظ يكتب في كل شيء. من دور “بطرس الناسك” على حماره في الحروب الصليبية إلى عركة فتوات في حارة مصرية. قال لي صديق مرة لو أن محمد محفوظ كان يكتب بالإنجليزية لكان واحدا ممن اهتم بهم الغرب وحققوا العالمية.

كان العم محفوظ يكتب في كل شيء
كان العم محفوظ يكتب في كل شيء

الشيء المهم الذي تتعلمه من محفوظ هو النظرة إلى الصحافة. في الوقت الذي كان فيه العالم يزداد أسرا لما تقدمه الوكالات، كان محفوظ يريدك أن تتعلم أن تفكر خارج صناديق الوكالات. تعلق على خبر صرت تردد ما فيه لأنك قرأته على الوكالات وشاهدته على الفضائيات وتصفحته في صحيفتك نفسها، وهو يرد ببعد آخر في قراءة تأخذ تاريخ هذه القضية في الاعتبار. من يومها لا يمر عليّ خبر مرور الكرام من دون أن أحاول أن أرجع خطوة للوراء لكي أنظر إليه بأفق أوسع.

الحوار بين مؤسس “العرب” الراحل الحاج أحمد الصالحين الهوني والعم محفوظ وسط صالة التحرير كان متعة حقيقية. كبيران يعرفان متى يسخران ومتى يكونان جديين. تتعلم منهما أن لا مكان للغرور في عالم الصحافة مهما وصلت ومهما توهمت بالوصول.

أثقل المرض على العم محفوظ فقرر العودة إلى مصر ولم نلتق منذ أكثر من 20 عاما. كنا نخطط أنا والأستاذ محمد الهوني أن نزوره، وكان هو يرسل رسائل قصيرة عبر أصدقاء يعبر عن سروره بالعمل المستمر في الصحيفة ومواكبتها الحدث والموقف. انشغلنا وركضت السنين وها هو يرحل. ذكراه تبقى بيننا، وتبقى الدروس التي تعلمتها من نطقه المتقطع ويده المرتعشة.

24