ليبيا في سباق الآليات والأسماء

توصلت البعثة الأممية إلى ليبيا إلى توافق على آلية لعملية اختيار أعضاء المجلس الرئاسي المقبل والحكومة الانتقالية.
والعقدةُ في الآليات والمعايير هي أنها أسماءٌ في النهاية. وقطارُ الحل في ليبيا لن يمضي دون حلها. فعندما يخوض أطرافُ الحوارِ في تحديدها، فإنهم ينظرون في ما يُقابلها من أسماء. لأنها هي الأهم بالنسبة لهم، وليس الآليات.
الأمم المتحضرة تنظر في الآليات أولا، لأنها هي الأهم. وليست الدساتير سوى آليات تحدد للقانون مجراه، وليأتي من بعده مَنْ يمكنه أن يمضي فيه ويحترمه، فيُحترم على أساسه.
أما في الأمم المتخلفة أو التي تتصارع مع نفسها، فإنها تفعل العكس. أي أنها تنظر في الأسماء، ولا تعير أهمية للأسس، فتظل تتنازع مع نفسها إلى أبد الآبدين.
وحيثما تظهر أسماء جديدة باستمرار في خضم الصراعات التي لا تنتهي، فقد ظلت العادة تجري أن يُصمم كل راكب على السلطة معايير تتناسب مع قياس حذائه.
وظل هذا هو الشغل الشاغل لفريق الحوار الليبي في تونس. إنهم تعبير عن حالة الأمة الليبية. وهم تشخيص مثالي لمستواها الفكري والثقافي. فبرغم أنهم ليسوا ممن سيتم تعيينهم، فقد رسم كل منهم في مخيلته قياس الحذاء الذي يخص من يواليه ويطمع في “رضاه”.
المبعوثةُ الأممية إلى ليبيا ستيفاني ويليامز أدركت معاني اللعبة. فحرصت على إيجاد سبيل لتحقيق التوافق على آلية محددة، حتى وإن كان أعضاء فريق ملتقى الحوار في تونس، يضعون في اعتبارهم الأسماء قبل المعايير.
حددت ويليامز حزمة من ثماني آليات لانتخاب أعضاء المجلس الرئاسي والحكومة الانتقالية، ووضعتها أمام الأعضاء الخمسة والسبعين. فحصلت آليتان منها على دعم أغلبية المتحاورين، وكانتا هما الآلية الثانية والثالثة.
أما هاتان الآليتان فقد قالت الثانية منهما على أن “يرشح كل إقليم من الأقاليم الثلاثة، اسمين للعرض على الجلسة العامة للجنة الحوار، للتصويت بينهما لعضوية المجلس الرئاسي. بينما يُنتخب رئيس الوزراء من جميع أعضاء لجنة الحوار، على أن يُعين رئيس المجلس الرئاسي المنتمي للإقليم الأكثر عددا المُخالف لرئيس الوزراء من بين الأعضاء الفائزين لعضوية الرئاسي”.
أما الآلية الثالثة، فقد نصت على أن ينتخب كل إقليم ممثليه في المجلس الرئاسي، بينما يُنتخب رئيس الوزراء من جميع أعضاء اللجنة شرط حصوله على تزكية من نفس إقليمه. كما تنص على أن يكون رئيس المجلس الرئاسي شخصا منتميا للإقليم الأكثر عددا والمخالف لرئيس الحكومة من بين الأعضاء الفائزين لعضوية الرئاسي.
في النهاية فإن جولات التصويت الأخرى هي التي سوف تحدد الأسماء. فيتكون مجلس رئاسي جديد وحكومة انتقالية جديدة.
المبعوثةُ الأممية إلى ليبيا ستيفاني ويليامز حرصت على إيجاد سبيل لتحقيق التوافق على آلية محددة، حتى وإن كان أعضاء فريق ملتقى الحوار في تونس، يضعون في اعتبارهم الأسماء قبل المعايير
يجب ألا يُستهان بحكمة ويليامز ولا بقدرتها على التمييز بين الرأس والحذاء. ولئن كان من سوء حظها أنها وجدت نفسها بين من ينظرون إلى أحذيتهم، فقد اختارت أن تناور عليهم، بما يُرضي الرأس قبل الحذاء.
هذه المناورة جمعت بين المطلبين معا، وهما إيجاد أرضية للتوافق على أساس للمحاصصة بين أقاليم طرابلس وبرقة وفزان، وبين اختيار أسماء لإدارة السلطة.
كل ما بعد ذلك، سيكون عقدة أخرى، ربما تتطلب المزيد من المناورات، إلا أنها على الأقل سوف تبدأ من قطار تم وضعه على السكة.
الأحذية التي سوف تتقاطر على طريق بناء سلطة جديدة، لن تعدم وسيلة لتخريب الحلول. فهذا جزء من طبيعة الأمور.
مجتمع يراهن على الأشخاص، ليس كمثل مجتمع يراهن على القيم والمعايير.
والأمر لا يتوقف على الليبيين وحدهم. فالأحذية هي ما يهم في الكثير من “تجارب الشعوب” الأخرى.
لم يكن من العجيب أن يكون هناك دستور جديد لكل رئيس تولى السلطة في الجزائر. فالدستور هو ما يلائم مقياس الحذاء. وغالبا ما يتم تعديله وإعادة التصويت عليه، ليس لأسباب ديمقراطية، كما تكثر المزاعم، وإنما لأن قدم صاحب الحذاء كبرت، بحكم وجوده في السلطة. مما صار يتطلب “تعديلات” تليها تعديلات وكلها تحظى بالفوز حتى من قبل طرحها للتصويت.
هكذا تكسب الأمم المتخلفة مكانها في العربة الخلفية لقطار التقدم الإنساني. وحيث أنها هناك، لا يراها أحد، فكثيرا ما تلجأ إلى أن تفصل العربة من القطار، إما بانقلاب وإما بحركة “تصحيحية” تشق طريقا مستقلا عن البشر، حتى لتنتج في النهاية حكومة من قبيل نظام مستعد لتدمير البلاد على رؤوس مواطنيها، وتهجير الملايين منهم، من أجل أن يبقى الحذاء مسلطا كالسيف على رقاب الناس، فيهتفون له “بالروح بالدم”، أو يدعون إلى بقائه على رؤوسهم “إلى الأبد”.
ولقد توفرت لليبيين، من باب حسن الحظ، ستيفاني ويليامز لكي تتدبر تسويات، وهو ما لم يتوفر لغيرهم، لأن سلطة الحذاء في “تجارب الشعوب” الأخرى لم تترك متسعا لتدخل خارجي، يجلب شيئا من فكرة وجود رأس، لعله يركب على جسم الكيان السياسي.
ولقد أوشك الليبيون أن يهزموها لعدة مرات، لاسيما عندما حولوا ملتقى الحوار في تونس إلى سوق لشراء الأصوات، حتى بلغ سعر “الصوت” 200 ألف يورو لتلميع هذا الحذاء دون ذاك.
إلا أنها صبرت عليهم. واختارت أن تبتدع سبيلا يؤدي إلى تأجيل التلميعات إلى ما بعد تحديد الآليات. حتى لكأنها قالت للجميع: احترموا رؤوسكم أولا.