بدون ترامب ذلك أفضل

لم يستبق العالم خروج رئيس أميركي من البيت الأبيض بمثل “زفّة” الشماتة بدونالد ترامب. وداع منزوع الهيبة، رسالة رمزية تشبه الاتفاق على أن الحياة أفضل بدون رجل سيذكر التاريخ أنه مجرد حادث سير ديمقراطي، خطأ عابر في لحظة مرتبكة كان فيها الاختيار بين سيء وأكثر سوءا، وجاء رجل الأعمال الأسوأ. وفي أقرب انتخابات تصحح الديمقراطية مسارها، ويشيّعه رسامو الكاريكاتير وفنانو الغرافيك والفيديو بسخريات بلغت حدّا هزليا ألبس ترامب جلبابا، وأعاده إلى التجارة التي يجيدها، واستقر في سوق شعبية في مصر يبيع الخضر. أما اللافتة الأكثر إيلاما فقد رفعها شاب عربي متسائلا: لماذا لا تسمح أميركا للعرب بالتصويت؛ لاختيار رئيس حكامهم؟
مرارة سؤال الشاب، مع استحالة تنفيذ الافتراض، تأكدت بمتابعة فضائيات مصرية وزعت اهتمامها، بغير إنصاف، بين الانتخابات الرئاسية الأميركية وانتخابات محلية برلمانية أهملتها الأغلبية؛ لليقين بعدم الجدوى، فلا يذكر مراقب كرامة للبرلمان منتهي الولاية والصلاحية، ويكفي عصر ليمونة للاستماع إلى بيان يتلوه رئيسه علي عبدالعال، ولن يخلو سطر من أخطاء لا تسلم منها الآيات القرآنية. ويضاف الارتباك إلى أخطاء النطق والمنطق، اتساقا مع قاعدة “يكاد المريب..”، ففي جلسة موافقة البرلمان على التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، عام 2017، أعلن عبدالعال الموافقة على اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر “والمملكة العصبية”، يقصد العربية. سخونة التوتر صهرت الكوابح، فاتصل اللسان بالعقل الباطن.
لا فرق كبيرا بين الجمهوريين والديمقراطيين، وإن بدا التصويت والترقب الخارجي انتظارا عنوانه “ما بعد ترامب”، دون اهتمام بتفاصيل ما بعد العنوان، رفضا لما يمثله ترامب من قيم عنصرية، ودعم للدكتاتوريات، والتباهي بصغار المستبدين، وتعزيز التوحش الرأسمالي، وفقدان اللباقة الدبلوماسية، ففي القمة العربية الإسلامية الأميركية بالرياض (21 مايو 2017) تجاهل علاقة الإرهاب بالاستبداد، وإرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل، لأنه يستهدف المليارات. وفي اليوم التالي زار حائط البراق، في سلوك غير مسبوق لرئيس أميركي، وحشا قصاصة ورقية في إحدى فجواته، وتلا مزمور “الخلاص لأورشليم”. ثم غرّد “إعادة مئات المليارات من الدولارات إلى الولايات المتحدة من الشرق الأوسط تعني وظائف وظائف وظائف”.
لا فرق كبيرا بين الجمهوريين والديمقراطيين، وإن بدا التصويت والترقب الخارجي انتظارا عنوانه “ما بعد ترامب”، دون اهتمام بتفاصيل ما بعد العنوان، رفضا لما يمثله ترامب من قيم عنصرية، ودعم للدكتاتوريات
طوال أربع سنوات تعامل ترامب بذهنية طفل نزق، لا يقنع بالحصول على المليارات من الدولارات، وإنما يتبع الأخذ ويسبقه بالابتزاز والتحقير والصلف والمعايرة، ولم يقدم لأحد جزرة مؤمنا بردع العصا. ولم يتردد في إعلان نفسه تاجرا ماهرا يجيد عقد الصفقات، شيء مقابل شيء، إتاوات من أجل حماية العروش. ولم تشفع له مليارات الإتاوات، فاستمر التراشق بينه وبين فنانين ومثقفين وصحافيين، ولولا رسوخ الديمقراطية وتمثلها في مؤسسات أكبر من الرئيس لوجدنا رموزا رهن اعتقال مفتوح بدون محاكمة، أو في السجون لاتهامهم بالعيب في ذات رئيس أنفق وقته في تغريدات تنال من وقار المنصب، حين يتفرغ لانتقاد ميريل ستريب وروبرت دي نيرو.
أحتكم إلى قاعدة: “قل لي رأيك في ترامب أقلْ لك من أنت”. أستاذ للفلسفة مراد وهبة (94 عاما) يواصل التبشير، منذ أربع سنوات، بأن ترامب مبعوث العناية الإلهية لتخليص العالم من شرور الإخوان المسلمين، والقضاء على تركة باراك أوباما وهيلاري كلينتون في رعاية تنظيمات إرهابية. ولم يتعمد ترامب خذلان أستاذ الفلسفة بعدم المساس بالجماعة التي وعد بإعلانها تنظيما إرهابيا، مجرد وعد، كما خذله في فبراير 2020 باتفاق سلام وقعه وزير الخارجية مايك بومبيو مع حركة طالبان، لإنهاء عقدين من الصراع، تاركا الشعب الأفغاني لمصيره. الرصانة الفلسفية وجه آخر لعويل فضائيات مصرية واصلت النواح على ترامب مع اقتراب فوز جو بايدن.
لم يكن ينقص مذيعي فضائيات مصرية، من الموالاة، إلا لوم الناخب الأميركي ودعوته إلى التصويت لترامب، ويسوقون لذلك حججا لا تهم الشعب الأميركي غير المشغول بمصر وفضائياتها وملاكها. وأبرز اتهاماتهم لبايدن أنه سيعادي المسلمين، مع أن ترامب هو الرئيس الأميركي الأكثر إلحاقا للأذى بالعرب والمسلمين، كما يباهي برعاية مستبدين صغار لا يضمنون استمرار هذه الحماية والتحالف مع بايدن، القادم من داخل دولاب المؤسسة الأميركية، وأيّا كانت انحيازاته فصعوده دليل اعتذار الأميركيين عن اختيارهم لترامب في الانتخابات السابقة، وبانتخاب بايدن تنتهي إملاءات جاريد كوشنر صهر ترامب، وتختفي نغمة شعبوية نشاز تتردد أصداؤها، خطابا وممارسة، في عواصم عربية. نسخ مزيدة غير منقّحة.
بالعودة إلى لافتة الشاب العربي الذي يريد للعرب المشاركة في اختيار من يحكم حكامهم، فإنه ربما يقول إن أغلب الشعوب العربية ما دامت لا تختار حكامها، فلتحلم ببلاد ديمقراطية حقا تتيح لها حرية اختيار حاكم حكامها. حلم ساخر يحدد أصل الأزمة، وهي التبعية، والارتهان إلى قوة لا يمكن أن تكون أخلاقية، ولا يطالبها بذلك إلا السذج، في تذكير بتعليق ونستون تشرشل لما قرأ على شاهد قبر، لعله قبر غاندي، “هنا يرقد رجل نبيل وسياسي عظيم”، فعلّق: “عجبا كيف يرقد رجلان في قبر لرجل واحد!”. ومنذ اعتمد الخطاب الرئاسي المصري “صديقي نيكسون” عام 1974، وتلاه “صديقي كارتر”، انتهينا إلى “صديقي بيغن”.
عام 2008 اكتفى باراك أوباما بكلمة “التغيير” شعارا لحملته الانتخابية. كان الرهان على أوباما في تغيير السياسة الخارجية بعد استشراء اليمين في إدارة جورج بوش. لم يتوقف الكثيرون أمام زيارة أوباما لحائط البراق، في يوليو 2008، وعلق عليه العالمان الإسلامي والعربي آمالا في الإنصاف، فهو الأسود، الذكي، تلميذ إدوارد سعيد. وتراجع حلم “التغيير”، فاقتصر على عدم إعلان حرب صليبية جديدة، كما فعل بوش عشية غزو العراق. وفي 4 يونيو 2009 أذكى هذا الأوهام بخطابه في القاهرة، مستضافا من الأزهر وجامعة القاهرة. ومضت ثماني سنوات انتهت بصعود ترامب حتى بدا الخلاص منه شبيها بالخلاص من بوش، فقط ليكون العالم أقل فجاجة.