آمال قرامي: المسلمون في أغلبهم ملتزمون بـ"التدين الشعبوي"

اعتبرت الأكاديمية التونسية آمال قرامي أن ردود الفعل إزاء نشر الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة لنبي لإسلام تنم عن تمسك أغلب المسلمين بما يمكن تسميته بالتدين الشعبوي، مضيفة في حوار مع “العرب” أن أفكار داعش ومرجعياته وتصوراه لا تزال متمكنة من عقول الشباب وهي وراء استقطابهم.
تونس - لا تزال العديد من النخب في تونس وغيرها تُراهن على ضرورة تقبل الحداثة كسبيل وحيد للقضاء على التطرف والتشدد الديني خاصة بعد الهجمات الدامية الأخيرة التي شهدتها أوروبا وبشكل خاص فرنسا.
وفي هذا الصدد قالت الأكاديمية التونسية، آمال قرامي، إن ردود الفعل التي تم رصدها خلال الهجمات التي استهدفت فرنسا مؤخرا تكشف عن عجز غالبية المسلمين عن عقلنة مواقفهم ما يبرز هشاشة واضحة “وكأن الإيمان وإظهار محبة الله والرسول والعقيدة أفعال مشترطة بأساليب الاحتجاج وليست بممارسة فعلية”.
وأضافت الباحثة التونسية في حوار مع “العرب” أنّ المسلمين يتمسكون بتدين شعبوي وطقوس شكلية تتجسد في شعارات، موضحة في سياق آخر أنه لا يوجد في تونس أي رؤية وتصورات لمستقبل البلاد.
وتُعد قرامي أحد أبرز الوجوه الأكاديمية في تونس حيث تختص في الجنسيات في الإسلام وتدرس في كلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة (إحدى محافظات إقليم تونس).
ومن أبرز مؤلفات الباحثة التونسية؛ “قضية الردة في الفكر الإسلامي الحديث”، “حرية المعتقد في الإسلام”، “الإسلام الآسيوي”، و”الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية”.
تدين شعبوي
أحيت الهجمات التي عرفتها فرنسا مؤخرا الجدل داخل البلدان العربية بشأن الحداثة والإسلام خاصة بعد أن انساقت الفئات الشعبية نحو التحريض ضد باريس وحتى “تمجيد” الإرهاب.
وفي هذا الصدد، تقول الأكاديمية التونسية إن “متابعة ردود الفعل العاطفية والانطباعية التي تذهب إلى حدّ ترهيب الآخرين وقطع رؤوسهم تبيّن مدى خضوع المسلمين للأهواء (الغضب، الحقد، الكراهية) واستشراء العنف بجميع أشكاله في المجتمعات المعاصرة، فضلا عن عجز أغلب المسلمين اليوم عن عقلنة مواقفهم، وهو أمر مُخبر عن هشاشة واضحة وكأنّ الإيمان، وإظهار حبّ الله والرسول والعقيدة.. أفعال مشروطة بأساليب الدفاع والاحتجاج والمناصرة (أي الشكل الظاهري) أكثر من ارتباطها بالممارسة الفعليّة التي تتجلّى من خلال التطابق بين القول والفعل، وبين القيم والممارسة والسلوك”. وتوضح قرامي أن المسلم أو المسلمة متمسّك اليوم بالتديّن “الشعبويّ” والطقوس الشكلية، وراغب في أداء دور ”المتديّن المحترم” على الركح الاجتماعي ومستعدّ في الغالب، للنفاق الاجتماعي وممارسة الرياء من أجل بناء صورة تعكس صورة المسلم ”الحقيقي” و”المعياري”.
وتُضيف أن “إظهار الغضب، والغيرة ليس إلاّ محاولة للخروج من الأزمة.. أزمة عدم القدرة على الالتزام بالتعاليم، وتطبيق ما جاء في النصوص وتجاوز الشعور بالإثم. وكأنّ إظهار الغضب الشديد ‘طقس تطهيري’ يُمكنّ الفرد من إثبات أنّه بالفعل مسلم(ة) ومتصالح مع هويته الدينيّة. ويمكن القول إنّ ما حدث على هامش نشر الرسوم الكاريكاتيرية يكشف عدم قدرة النخب، بما فيها النخب المنتمية إلى المؤسسات الدينية، على الاضطلاع بأدوارها المتلائمة مع السياق الجديد من خلال فتح مساحات كبرى للنقاش الهادئ والمعمّق، وإثارة الأسئلة، وإعادة النظر في أشكال التفاعل مع الأحداث وكأنّ العدّة المنهجية والوسائل المتوفرة لم تعد فاعلة، وبتعطلها لا وجود اليوم لحوار حقيقي لاسيما إذا لم يكن للناس استعداد مسبق للتمرّن على التفاعل البنّاء مع الآراء والتصورات باعتماد الحجّة والمنطق والاستدلال”.
وتعيش البلدان العربية والمسلمة على وقع جدل يتصاعد بعد تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اعتبرت مسيئة للإسلام وهو ما أثار مجددا الحديث عن أزمة هذا الدين واندماج المسلمين في أوروبا.
وتُحاول باريس الآن قيادة حملة واسعة ضد الإسلاميين وممثليهم في بلادها لتأسيس إسلام يتماشى وقيم الجمهورية الفرنسية.
وتؤكد آمال قرامي أن المسلم المأزوم يعاني من مجموعة أزمات مركّبة منها ما يتعلّق بمؤسسات التنشئة: الأسرية، التربوية، الاجتماعية، التعليمية، الثقافية، الدينية، والسياسية التي لم تعد قادرة على تلبية حاجياته وتقديم ما يستطيع من خلاله أن يبني ذاته ويصوغ رؤية لموقعه وحياته ورؤيته للكون ومن ثمّة فإنّ هذه المؤسسات تنتج إنسانا معطوبا.
وأضافت “المسألة تتجاوز في نظرنا، إعادة قراءة النصوص الدينية بمقاربات متنوعة وعصرية إلى تأسيس مشروع لتنشئة الأفراد تنشئة منفتحة على الغيرية وممارسة النقد الذاتي وطرح الإشكاليات والجرأة على تسمية الأشياء بمسمياتها والمقاومة: مقاومة الجهل الممأسس، وتزييف الوعي والعمى الإدراكي والاستلاب والفساد بكلّ أشكاله، خاصّة في المجال المعرفي. ولا يمكن أن نتغاضى عن التوظيف السياسي للدين والخطابات التي تصاغ حول الدين في سياق تأبّد فيه الصراع بين تركيا من جهة، وفرنسا من جهة أخرى أو نتجاهل وضع المسلمين في الغرب الذين واجهوا معضلات ثقافية وصعوبات في الاندماج”.
وبالرغم من أن تونس حققت انتصارات مهمة ضد الإرهاب إلا أن عمليات أخيرة وقعت في البلاد وخارجها كشفت عن استمرار استقطاب الشباب التونسي للجماعات الجهادية، حيث أكدت السلطات الفرنسية أن منفذ عملية نيس الأخيرة والتي راح ضحيتها ثلاثة مدنيين تونسي الجنسية.
وفي تعليقها على ذلك، تقول قرامي “داعش الفكرة والمشروع والتصورات والنصوص لا تزال متمكنّة من العقول ولا زالت تستهوي عددا من الشبان والشابات الذين فقدوا البوصلة ولم يعودوا يثقون بالسياسيين والنخب .. فالأنموذج المتوّفر هو زعامة القائد المتحكّم في الجماعة من أجل تغيير الواقع، وهو زعيم قادر على إنتاج خطاب جديد يؤثّر في المشاعر وينوّم العقول، ويحلّق بالنفوس الحالمة في عالم الآخر: عالم الشهادة، والجنّة الموعودة”.
وتُضيف الباحثة التونسية “إنّه خطاب إدماجيّ، يعيد بناء النظام التراتبي، فالمنتمي إلى طبقة مسحوقة بإمكانه أن يصبح أميرا والمرأة التي نبذت من عشيرتها بإمكانها أن تحقّق ولادة جديدة فتصبح ‘أمّ الدرداء’ أو ‘أم صهيب’ .. إنّه خطاب يدغدغ المشاعر، ويوظّف أزمات جيل يفتقر إلى الاعتراف والأمل. ولأنّ هذه الأجيال الجديدة غير محصّنة بتعليم عصريّ وثقافة متينة ولم يتوفّر لها مناخ مستقر وسليم حتى تدرب على الاختلاف وقبول التنوع والثقافة الحقوقية فإنّها تعاني من هشاشة مركبّة تجعلها فريسة التلاعب: شبكات التطرف العنيف، الهجرة اللانظامية، الاتجار بالبشر، تجارة المخدرات.. كلنّا نتحمّل مسؤولية ما يحدث: الفاعلون السياسيون الذين تطفلوا على المشهد فعاثوا في البلاد فسادا، والمسؤولون عن رسم السياسات الذين صاغوا الخطط لمواجهة الإرهاب والتطرف العنيف دون اقتناع أو فهم بل خضوعا للسياسات الخارجية، والنخب التي بحثت عن مصالحها، والأسر المستقيلة طوعيا أو بسبب المنوال الاقتصادي المتوحش، والإعلام الذي لم يكن في مستوى المتوقع في مثل هذا السياق”.
تونس تحولت إلى مختبر
تشهد تونس أزمة سياسية واقتصادية متفاقمة بالرغم من محاولات يبدو أنها محتشمة تدفع نحو حوار وطني والمزيد من التشاور بين مكونات المشهد لإيجاد حلول ناجعة لهذه الأزمة.
والثلاثاء تحدث رئيس الحكومة هشام المشيشي عن “دمار لحق بالبلاد”، مؤكدا أن تونس لم تعش أزمة اقتصادية واجتماعية في تاريخها مثل التي تعيشها حاليا.
وفي هذا الصدد تقول الباحثة التونسية إن “التمحيص في مسار الانتقال الديمقراطي يؤكد أنّنا لا نملك تصورا أو مشروعا أو رؤية للخروج من أوضاع متأزمة، بل إنّ تونس تحوّلت إلى مختبر كلّ يريد أن يخضعها لما ترسخ في ذهنه من صور وحنين أو مناويل ورؤية أيديولوجية.. أو يستثمر مؤسساتها لتحقيق مصالح حزبية ضيقة”.
وتتابع “عندما تغيب الرؤية الإصلاحية ولا نستشرف المستقبل ونكتفي بسياسات الغنيمة تتعطل إمكانيات الخروج من الأزمات، وعندما يتنافس الفاعلون من أجل المواقع والمصالح الخاصّة تتم التضحية بالمصلحة العامة”.
وبالرغم من حدة الأزمة الاقتصادية غير أن المعارك والتجاذبات السياسية في تونس لا تنتهي حيث تواجه حركة النهضة الإسلامية اتهامات متصاعدة بتغليب مصلحتها الخاصة على حساب البلاد.
لكن هذا الحزب نفسه يعيش انقسامات حادة داخله بسبب التمديد لرئيسه راشد الغنوشي الذي يرأس البرلمان أيضا.
وتقول قرامي “النهضة حرصت منذ خروجها إلى مجال ممارسة السلطة على كتم المستور وبناء صورة لحزب مرصوص البنيان، شديد التنظيم، أتباعه يلتزمون بالانضباط.. وهو ما جعل الباحثين الغربيين على وجه الخصوص، والعديد من وسائل الإعلام تشيد بهذه التجربة الفريدة ولكن ممارسة الحكم كشفت الرهانات وعرّت الهنات فمن ذاق حلاوة السلطة والامتيازات لن يتخلّى عنها وسيدافع بشراسة عن ‘حقوقه’ ولذلك برزت الخلافات بين مختلف الفئات. من كانوا في المنفى ومن عاشوا تجربة السجن، الأجيال المؤسسة والأجيال المخضرمة والأجيال الجديدة. بين الملتزمات بالتنظيم منذ تأسيسه والوافدات غير المحجبات وغير الملتزمات شعائريا”.
وتُضيف أن هذه الانقسامات ستضعف الحركة الإسلامية لاسيما بعد أن أدرك التونسيون “الفجوة بين الخطاب والسلوك”، بين الشعارات الرنانة والفعل في الواقع، وتغيّر المواقف من النقيض إلى النقيض بسبب مراعاة موازين القوى، ومتطلبات السياق ومقتضيات المصلحة الخاصة.
حضور محدود للمرأة التونسية
نجحت تونس منذ نيل استقلالها في العام 1956 في إقرار العديد من القوانين التي تدعم حقوق المرأة لكن حضور الأخيرة في مواقع القرار لا يزال باهتا. كما أن البلاد عجزت في وقت سابق عن تمرير قانون يضمن المساواة التامة بين الجنسين في الميراث وهو ما يثير تساؤلات جدية عن تعزيز مكاسب المرأة والأقليات في البلاد في المستقبل.
وتفيد آمال قرامي بأن “الفجوة بين أداء النساء في مختلف القطاعات المهنية (الصحّة، التعليم، الاقتصاد، التكنولوجيا) وحضورهنّ المحدود في مواقع صنع القرار جليّة نظرا إلى غياب الإرادة السياسية وتردّد صناع القرار في تطبيق التزامات الدولة أمام المواطنات التونسيات إن كان في الدستور أو المعاهدات الدولية أو القرارات الصادرة أو الخطاب السياسي الانتخابي. فنحن إزاء رجال يتكلمون ويعدون ويمضون ويفتتحون المؤتمرات.. ولا يوفون بعهودهم ولا يطبقون القانون ولا يلتزمون بالمعاهدات إلاّ لماما أحيانا تحت ضغط الأحزاب التي توظف النساء لغاية تخدم مرئياتها وسردية انخراطها في الحداثة”.
وتتابع “وبناء على ذلك فإنّ التحرك النسائي مستمر من أجل تطبيق المساءلة والمحاسبة وإلزام الدولة باحترام المواطنات اللواتي يرغبنّ في العدالة الجندرية وفي تحمل مسؤولياتهن أمام التاريخ”.
قرامي تؤكد أن الفجوة بين أداء النساء في القطاعات المهنية وحضورهنّ المحدود في مواقع صنع القرار جليّة
وتؤكد قرامي أن العراقيل كثيرة أمام المرأة منها ما يتعلّق بالنخبة السياسية التي كانت في الغالب دون التوقعات وخيبت الآمال، ومنها ما له صلة بالسياق المجتمعي وحالة “الارتداد”، ومنها ما له علاقة بتصميم “حراس الشريعة” وممثلي الأيديولوجيا الذكورية على تقليص حقوق النساء في محاولة للحفاظ على الامتيازات الذكورية، ومنها ما له علاقة ببناء العلاقات بين الجنسين على أساس التسلّط والتوظيف والتلاعب والتشييء بدل المشاركة الفعلية، ومنها ما له وشائج بالتمثلات الاجتماعية والدينية والرمزية والمتخيل الجمعي.
وتوضح الباحثة التونسية أنه “صار على النساء التونسيات النضال على أكثر من واجهة ومقاومة كلّ هذه العوامل التي لا تخص تونس فحسب.. فما يجري بخصوص منع الإجهاض في عدد من البلدان كالولايات المتحدة وبولندا وغيرهما من البلدان، وما يحدث للنساء في البرازيل والمكسيك وغيرهما من البلدان اللاتينو أميركية والأفريقية يثبت أنّ النساء يواجهن عنفا واعتداء على مكتسباتهن وحقوقهن مما يستوجب المزيد من التآزر والتشبيك. ولعلّ النسوية العابرة للقوميات خير إطار مساعد على تنظيم الصفوف وتوحيد المقاومة.
وتختم “وبالنسبة مثلا لمطالب العدالة الجندرية والمساواة فهي مطالب متجذرة، وليست مناسباتية ولا مرتبطة بسياق سياسي محدد ومن ثمّة فإنّ الناشطات الحقوقيات لا يعتبرنّ أنّ المسار سهل بل على العكس هنّ يقدرن أّنّ النضال طويل ويتطلب صبرا وقدرة على الضغط”.