المغربي محمد المليحي.. رحل ممتطيا موجة من الفرح المتأخر

الفنان المغربي الرائد يخطفه الموت، وهو في عزّ تكاثر فرص العرض التي حفّزته نحو إنتاج أعمال فنية جديدة.
الأربعاء 2020/11/04
أعمال تآخت مع ذهنية البحر وأمواجه المتجدّدة

توفي إثر مضاعفات صحية جراء إصابته بوباء كورونا المستجد الفنان التشكيلي المغربي الرائد محمد المليحي الذي أسّس حركة الفن المتطرف في مدرسة الدار البيضاء للفنون من عام 1964 إلى عام 1974، والتي ألهمت الفن التجريدي المغربي بشكل خاص بعد أن غرفت من جمالية الخطوط العربية، لاسيما في علاقتها مع الفراغ، ومن الموروث الإسلامي والمغربي الأفريقي الزاخر بزركشات الأبسطة الملونة وتصاميم الحليِّ الفضية وتربيعات ومعينات الأرابيسك.

كنت منذ يومين بصدد الحديث مع مجموعة من الأصدقاء المثقفين عن الفنان المغربي محمد المليحي، الذي توفي إثر إصابته بوباء كورونا في أحد مستشفيات باريس، عن عمر يناهز الـ84 سنة، تاركا وراءه تجربة فنية أرست معالم ثرية أساسية من فن مغربي معاصر ارتقى إلى العالمية.

واتفق كل هؤلاء الأصدقاء حول حدث الوفاة أنه “لم يكن أي داع أبدا لكل هذه الجلبة التي حدثت في الإعلام، لاسيما في الإعلام الغربي، فالرجل مسن وقد توفي”.

والحقيقة تتجلّى مرة أخرى في هذا الحديث مع الأصدقاء. حقيقة تقول إنه في عالمنا العربي غالبا ما نحزن كثيرا لوفاة إنسان بعمر الطفولة أو الشباب ونتوقع له مستقبلا مشرقا (حتمية الإشراق غير مشكوك بأمرها) لم يستطع أن يعيشه، وأولادا لم ينجبهم، بينما يجيء حزننا مقترنا بهدوء غرائبي عندما تحدث الوفاة لإنسان متقدّم في السن.

أعمال المليحي ذهبت خلف الأشكال الظاهرية للأمواج نحو أفكار التلاقي ما بين الظاهر والباطن والأفق والعمق
أعمال المليحي ذهبت خلف الأشكال الظاهرية للأمواج نحو أفكار التلاقي ما بين الظاهر والباطن والأفق والعمق

هذا المنطق مبني بشكل أساسي على قناعة أن اليافع لم ير شيئا أو لم يحقّق شيئا بعد من حياته، بينما عاش كبير السن حياته “طولا وعرضا”، وذلك حُكما بغض النظر عن طبيعة الطول والعرض اللذين “تنعم” خلالهما هذا أو ذاك المُسن.

تأخذنا وفاة الفنان محمد المليحي إلى هذه الأفكار، لاسيما حينما تحدث إثر مرض أو حادث سير أو ما شابه.

الحقيقة التي يرفض الكثيرون منا النظر في عينها، هي أولا أن كلا الاثنين، اليافع والمسن، عاشا حياتهما وفق مدة قدّرها الخالق لهما. ثانيا أن أهمية الحياة مبنية بشكل خاص على نوعية الحياة التي عاشها هذا المسن أو ذاك الشاب.

في هذا السياق تحديدا، يعلم جيدا كل من تابع مسيرة محمد المليحي الفنية، إن كان مُحبا لفنه أو كارها له، أنه بدأ يحصد “الفرح” بشهرته الفنية السنة الماضية فقط، وإن كان اسمه متداولا في أروقة التشكيل الفني العالمي.

كان له معرض استعادي في مدينة الرباط سنة 2019 تحت عنوان “60 سنة من الإبداع.. 60 سنة من الابتكار”.

إضافة إلى ذلك وخلال شهر مارس الماضي حطمت لوحة له الأرقام القياسية في مزاد لندني، بعدما بيعت بما يعادل تقريبا سبعة أضعاف السعر الذي كان محدّدا لها.

رسم الفنان هذه اللوحة المعنونة بـ”ذي بلاكس” سنة 1963 في مدينة نيويورك خلال الفترة التي كان فيها مقيما في الولايات المتحدة.

وقد خطف وباء كوفيد – 19 الفنان وهو في عزّ تكاثر فرص العرض التي حفّزته نحو إنتاج أعمال فنية جديدة. ويُذكر أن السنة السابقة افتتح له معرض فردي ضخم في متحف الفن الأفريقي المعاصر في مراكش انتقل بعدها إلى “غرف الموزاييك” في لندن، ومن ثم إلى صالة “كونكريت” في دبي، ولا يزال المعرض قائما إلى اليوم.

ومن سخرية الأقدار أن يكون الفنان قد قال يوما حول مجمل فنه، كأنه ردا على هؤلاء الأصدقاء المثقفين، “أَخْلُصُ اليوم إلى أن مشاغلي التي تعود لاثنتين وثلاثين سنة مضت، هي نفسها اليومَ”.

كلام يؤكّد على أهمية الحياة الناشئة من غناها بالنسبة لصاحبها وللآخرين، وليس من قصر أو طول مدتها.

والقسم الأغنى من هذه السنوات هي تلك التي أمضاها الفنان في التمجيد شبه الشعائري لحركة أمواج البحر. وهو ابن المدينة البحرية أصيلة المغربية، أعرق المدن التاريخية في المغرب، والشهيرة بامتداد شواطئها الرملية/ الذهبية.

آثار فنية استمدت ديمومتها من فكرة الخلق في التكرار
آثار فنية استمدت ديمومتها من فكرة الخلق في التكرار

أهم أعماله هي تلك التي تآخت مع ذهنية البحر وأحواله الأكثر ظاهرية: الأمواج.. الأمواج صعود وهبوطا، فورانا وتهاديا، برودة ودفئا وكذلك مدا وجزرا.

عود على بدء، ليس هو عود بنفس الهيئة، بل بأشكال وألوان وإيقاعات وتوجهات مختلفة سكنت لوحات الفنان حتى آخر موجة من أمواج حياته التي استمرت في التجدّد حتى خطفه الوباء بعيدا عن إيقاعاته الملونة.

وكما تشير أهم الأعمال التجريدية التي يعتبر الفن الإسلامي من أهم روادها ذهبت أعمال الفنان محمد المليحي خلف الأشكال الظاهرية للأمواج نحو أفكار التلاقي ما بين الظاهر والباطن، الناري والمائي، الدافق والهامد، الأفق والعمق، الإنسان والكون، وفكرة الخلق من صلب التكرار، وهي جملة المعاني الفلسفية التي وجدت طريقها إلى لوحاته التي أنتجها ما بعد سنة 1980، وتمثلت لاسيما بالخطوط والأحجام الغرافيكية المتنوعة و”الاعتراضية” التي شقت أو انبثقت من إيقاع التكرار في اللوحات.

قد يكون الفنان المبدع الذي رحل، وهو في كنف لوحاته “مُسنا” بالنسبة لبعض المثقفين لكنه حتما ليس كذلك، لا بالنسبة للآخرين المتذوقين لفنه أو الضليعين في الفن، وبالتأكيد ليس بالنسبة له، الفنان، الطفل الأبدي الذي أمضى معظم عمره وهو يلهو مع الأمواج، وكان يمكن أن يبقى يلهو معها أكثر لو لم يختطفه الموت بعيدا عنها.

16