ماما ميا تشعل الحنين للزمن الجميل

في عقد السبعينات من القرن الماضي، ظهرت فرقة آبا السويدية التي أصبحت خلال فترة وجيزة من أشهر فرق البوب، فهي أشهر ما خرج من السويد بعد سيارة الفولفو، وقد حققت خلال مسيرتها الفنية نجاحا غير مسبوق، اذ باعت أكثر من 380 مليون ألبوم، وكانت أغانيها أساسا لمسرحية حطمت أرقاما قياسية وفيلم من ثلاثة أجزاء.
بغض النظر عن المسرحية التي تنوي حضورها الليلة في لندن، التجربة بحد ذاتها تستحق أن تعاش؛ فسر جاذبية لندن، رغم ما يشاع عنها بأنها مدينة الضباب، يكمن في مسارحها.
احرص على التنقل من الفندق، أو العنوان الذي تقطن فيه، إلى دار المسرح مستقلا تاكسي لندن الشهير، فأنت الليلة على وشك اختبار ساعات تحيي فيها شعلة الرومانسية، التي ربما افتقدتها منذ زمن. حضور مسرحية في لندن علاج نفسي، خاصة لشريكين عانيا برودا عاطفيا في حياتهما مؤخرا.
التنقل بالتاكسي، متعة في لندن، لا تكتمل زيارتك لها دون أن تستقله ولو مرة واحدة. سينقلك التاكسي الذي يسير بخفة عبر أزقة ضيقة إلى قلب لندن المعروف باسم “ويست إند”؛ تقليديًا تعرف بأنها منطقة المسارح، ويعد شارع شافتسبري أفينيو، قلب حي المسارح اللندني؛ على جانبيه تنتشر ست دور للمسرح.
مسارح مسكونة بالأشباح
أنت الآن على وشك أن تختبر تاريخا عريقا يعود بك إلى العصور الوسطى.
تذكر الوثائق أن أول مسرح في لندن افتتح عام 1576، وكان اسمه “المسرح” لأنه كان الوحيد حينها في المدينة. قبل ذلك كانت العروض المسرحية تقدم في الأماكن العامة وفي حدائق القصور، وبعد نهاية عقد الإيجار على أرض “المسرح” تم نقله إلى موقع جديد اسمه “غلوب” افتتح عام 1599.
يشتهر غلوب بأنه أول مسرح قدم عروضا لمسرحيات شكسبير، بداية من هاملت، والملك لير، وانتهاء بعطيل. أما مسارح الحي الغربي فقد بدأت بالافتتاح عام 1663 في شارع، دروري لين، وبعدها توالت المسارح التي التهم معظمها حريق لندن العظيم، بينما استمر عدد منها في نشاطه يعمل بلا انقطاع لمئات السنين. ويعتقد الإنجليز أن المسارح، التي نجت، مسكونة بالأشباح!
يمكن القول إن تاريخ المسرح الإنجليزي صنعته مسرحيات شكسبير. وفي العصر الحديث يعد، السير أندرو لويد ويبر، من أشهر مؤلفي الموسيقى المسرحية، وتعرض مسارح لندن العديد من مسرحياته الغنائية.
هناك العديد من الأرقام القياسية التي حققتها مسرحيات لندن، وتأتي على رأس القائمة مسرحية “ماوس تراب”، مصيدة الفئران، لأغاثا كريستي الأطول عرضا في تاريخ مسارح لندن، افتتحت للجمهور في 25 نوفمبر عام 1952، وما زالت عروضها مستمرة بعد 68 عاما! وتم نقل المسرحية من مسرح “نيو أمباسدور” إلى مسرح “سان مارتنز” في عام 1974، وتم عرضها 25 ألف مرة على الأقل.
أما ثاني أطول العروض المسرحية في لندن فهي ”البؤساء” لفيكتور هيغو، وهي مستمرة منذ 38 عامًا، وتعد، أيضًا، صاحبة الرقم القياسي في المسرح الموسيقي.
أخيرا، توقف التاكسي الذي يقلنا أمام مسرح “برنس أوف ويلز” حيث تعرض مسرحية “ماما ميا” منذ 15 عاما.
تعتبر مسرحية مامّا ميا ظاهرة في المسرح الموسيقي. ونحن على وشك أن نحضر عرضا رائعا يقدم أعمال آبا الغنائية.
لقد أحب أكثر من 45 مليون شخص في أكثر من 175 مدينة في جميع أنحاء العالم الشخصيات والقصة.
أول ما يلفت انتباهك وأنت تأخذ مقعدك بين الحاضرين، أن غالبية الجمهور في العقد الخامس والسادس من أعمارهم. إنها الأجيال التي عاصرت فرقة آبا، في سبعينات القرن الماضي، والتي تمحورت المسرحية على أغانيها، واستمدت اسمها من أغنية هي واحدة من أكثر أعمال الفرقة السويدية شهرة.
تعتبر فرقة آبا من أشهر فرق الغنائية في التاريخ، لا يعادلها شهرة سوى فرقة البيتلز البريطانية. بدأت نواتها بالتشكل في عام 1966 عندما التقى بيورن أولفيوس، مع بني أندرسون، وكتبا أغنيتهما الأولى في نهاية ذلك العام.
في عام 1969، التقى بيورن وبني، الفتاتين اللتين ستصبحان شريكتي حياتهما. اقتصر تعاون الأربعة في البداية على دعم كل منهم أغاني الآخرين، عزفاً وتلحيناً. واستطاعوا في ربيع عام 1972 أن يسجّلوا أغنية، الناس يحتاجون إلى الحب، التي حققت نجاحاً مقبولاً في السويد.
وفي عام 1973 شاركوا في مسابقة الأغنية الأوروبية، وحصلوا على المرتبة الثالثة. واشتركوا ثانية في المسابقة بأغنية واترلو، التي نجحت نجاحا مذهلا وأوصلتهم للنهائيات في مدينة برايتون الساحلية على القنال الإنجليزي.
أما اسم آبا فلم يظهر للوجود إلاّ عام 1974، ويمثل الأحرف الأولى لأسمائهم، وكان ذلك العام أبرز نقطة في تاريخهم الفني، بعد أن ربحت أغنية واترلو جائزة مسابقة الأغنية الأوروبية، ووصلت لقائمة أفضل عشر أغان في الولايات المتحدة.
بعد فترة ركود جاءت رائعتهم، ماما ميا، لتعيد الفرقة للواجهة وتبقيها في الصدارة حتى عام 1980. في عام 1976، كانت فرقة آبا قد أثبتت وجودها كواحدة من أشهر الفرق في العالم، وفي عام 1977 وصلت أغنية الملكة الراقصة للمرتبة الأولى في قائمة أفضل الأغاني في الولايات المتحدة.
في نهاية عام 1976، أصدرت الفرقة ألبومها الرابع الذي حقق نجاحاً باهراً تلته جولة موسيقية في أستراليا وأوروبا. وفي عام 1980، قامت الفرقة بجولة في اليابان، وكانت تلك آخر جولة قام بها الرباعي أمام الجمهور.
في عام 1981 وقع الطلاق بين بني وفريدا، ولكن التعاون استمر لفترة قبل أن يتوقفا نهائياً عام 1982، ولم يغريهما عرض بمليار دولار ليعودا للغناء معاً في جولة فنية.
كهول مراهقون
فتح الستار وبدأ العرض المسرحي، ليتحرر الجمهور من المظاهر الرسمية والوقار الذي بدا على وجوههم قبل بدء العرض.
فجأة تحول جمهور العجائز والكهول إلى مراهقين تعتلي وجوههم الدهشة، وهم يصغون إلى 27 أغنية من أغاني آبا المعروفة، بما في ذلك “الملكة الراقصة” و”معرفتي لذاتي معرفتي لك” و”سوبر تروبر” والأغنية التي سميت المسرحية باسمها “ماما ميا”.
إذا اتفقنا مع المفكر البريطاني، كولن ولسن، الذي يقول إن مأساة الإنسان الحديث هي فقدانه للدهشة، تكون مسرحية، ماما ميا، أفضل علاج، فهي ترمي بنا في عالم مليء بالدهشة والرومانسية.
أعدت كاتبة السيناريو، كاثرين جونسون، قصة مشرقة تجري أحداثها في جزيرة يونانية رائعة الجمال، تدور حول فتاة تبحث عن هوية والدها في ليلة زفافها، ويقودها بحثها إلى ثلاثة رجال من ماضي والدتها، وقد عادوا إلى الجزيرة بعد مرور عشرين عاما على آخر زيارة قاموا بها.
وعلى مدى 15 عاما، هي الفترة التي عرضت خلالها المسرحية، حرصت أفواج من السياح البريطانيين والأوروبيين والأميركيين ومن كل مكان، على حجز مقاعد لمشاهدة مسرحية كان مقدرا لها أن تستمر في العرض إلى ما لا نهاية.
عندما أطفئت الأنوار في نهاية عرض مسرحية، ماما ميا، في مسرح “برنس أوف ويلز” يوم 14 مارس، لم يكن الممثلون يعلمون، ولا الجمهور يعلم، أنها المرة الأخيرة التي يقدم فيها العرض.
في اليوم التالي أصدر رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، تعليماته بتجنب الذهاب إلى المسارح. ولا تشير إستراتيجية الحكومة البريطانية، المكونة من ستين صفحة، لعودة بريطانيا إلى إعادة فتح مسارح البلاد، التي يزيد عددها على الألف.
وبينما واجهت بريطانيا، قيودا على التجمعات على مدى شهور، لا توجد أي احتمالات لقرب افتتاح “ويست إند”، حيث تواجه دور العرض أزمة، يخشى كثيرون من صناع المسرح، أن لا تتعافى منها.
تتخذ بريطانيا ما أطلق عليه جونسون “خطوات صغيرة” لإعادة النشاط إلى الاقتصاد، إلا أن الأمر لا يشمل العروض المسرحية، فوفقا لتصريحات جونسون، تظل تعليمات التباعد الاجتماعي، “قائمة”، حيث يجب أن يحافظ الأفراد على مسافة، قدرها متران بين شخص وآخر في الأماكن العامة.
وفي الوقت الذي أرجئ فيه لمّ شملها إلى عام 2021، تنوي فرقة الروك السويدية إصدار خمس أغنيات جديدة. وكان من المقرّر أن تصدر الأعمال الجديد في وقت لاحق من العام الحالي، غير أنّ الخطط تبدّلت بسبب الظروف التي فرضتها جائحة كورونا.
ها نحن هنا ثانية
وكان آخر ألبومات الفرقة قد صدر في عام 1982، قبل أن يُكشف النقاب عن أغنيات منفردة في 1993 و1994.
ولكن، الجائحة لم تكتب الفصل الختامي لفرقة آبا. الفرقة التي استمرت شهرتها على مدى 50 عاما؛ مكتوب لها فصل آخر من النجاح، رغم إغلاق المسارح ورغم فايروس كورونا.
ماما ميا، ها أنا أعود مجددا، بهذه الكلمات لمحت المنتجة جودي كريمر عن اقتراب تقديم الجزء الثالث من السلسلة الغنائية الشهيرة.
وفي حوار لها مع ديلي ميل أكدت المنتجة البريطانية أن التحضير للعمل تم قبل انتشار جائحة كورونا، مؤكدة نية صناع السلسلة منذ البداية على تقديمها في ثلاثة أجزاء.
الجزء الأول من السلسلة حمل عنوان ماما ميا، وتم تقديمه عام 2008، وبعد عشر سنوات عاد منتجو العمل لتقديم جزء ثانِ حمل عنوان، ماما ميا.. ها نحن هنا ثانية.
وحصل الفيلم على إيرادات تجاوزت 400 مليون دولار أميركي، ومن المنتظر تقديم الجزء الثالث قريبا، حال استقرار الأوضاع عالميا، حيث أكدت كريمر تحمس يونيفرسال لتقديم جزء جديد من القصة.
رغم النجاح الشعبي الكبير الذي حققه الفيلم، بجزأيه الأول والثاني، إلاّ أن بعض النقاد أخذوا عليه إغراقه في الرومانسية وفي المواقف الكوميدية، وهو الأمر الذي رأى فيه نقاد آخرون تناقضا صارخا، فالقصة بالأساس قائمة على فكرة رومانسية تهدف لإحياء ما كان سائدا في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ونجحت الفكرة في شد الجمهور لحضور العرض المسرحي على مدى عقدين تقريبا.
الجزء الثاني من الفيلم صدر عام 2018، وهو من إخراج وسيناريو أور باركر، وقصة كاثرين جونسون، بالاشتراك مع ريتشارد كورتيس.
ويقوم الفيلم بجزأيه على نفس أغنية تحمل نفس الاسم. شارك في بطولته كل من ليلي جيمز، أماندا سيفريد، كريستين بارانسكي، جولي والترز، بيرس بروسنان، كولين فيرث، ستيلان سكارسغارد، دومينيك كوبر، شير وميريل ستريب.
وفي الوقت الذي حان لها فيه أن تتقاعد، أعادت شير، التي تجاوزت السبعين عاما، إحياء أغاني آبا في الفيلم بطريقة مذهلة وجميلة، وكانت قد بدأت الغناء وهي في السابعة عشر من عمرها، وتربعت أغانيها على قائمة الأغاني الأكثر رواجا لسنوات وسنوات.
الجزء الثاني تتمة لأحداث الجزء الأول، وفيه يروي المخرج ذكريات حدثت عام 1979، فيتابع حكاية دونا شريدان، التي فعلت المستحيل للوصول إلى جزيرة، كالوكايري، والاجتماع بابنتها صوفي، لكنها تفاجأ عندما تعلم أن هناك ثلاثة رجال يدعي كل واحد منهم أنه والد ابنتها.
النجاح المالي الذي حققه الفيلم في جزئه الأول؛ دفع شركة، يونيفرسال بيكشرز، لصُنع جزء ثان له، ولم يعلن عن عنوان الفيلم رسميا إلا بعد عشر سنوات تقريبا، في مايو 2017، وتم التعاقد مع المؤلفة باركر للإشراف على خلية الكتابة.
أفضل منجز سويدي
صدر الفيلم في المملكة المتحدة والولايات المتحدة في 20 يوليو 2018، أي بعد عشر سنوات من موعد صدور الفيلم الأصلي. تلقى الفيلم ردود فعل مختلطة من النقاد، لكن بصفة عامة أثنى أكثرهم على محتوى الفيلم والموسيقى التي تضمنها.
وبعد خمس سنوات من أحداث الفيلم الأول، تبدو صوفي منزعجة بسبب عدم معرفة هوية والدها الحقيقي، فضلا عن مواجهتها للكثير من المشاكل بسبب رغبتها في الزواج من شاب يعيش في نيويورك؛ ليس هذا فقط بل يجب عليها إحياء ذكرى وفاة جدها، دون نسيان والدتها أو حبيبها.
قبل خمسة وعشرين عاما من هذه الأحداث؛ كانت دونا (والدة صوفي) شابة قررت حينها السفر حول العالم، وعندما وصلت باريس؛ قابلت هاري الذي أغواها لتتشارك معه الفراش.
وفي وقت لاحق وبينما هي على إحدى السفن، تتعرف على بيل، الذي رافقها طوال الإبحار، ولم يخلُ الأمر من علاقة حميمة معه.
تواصلت مغامرات دونا عندما وصلت السويد؛ هناك انفصلت عن بيل والتقت بشاب من دول البلقان، بادلته الإعجاب لتنشأ بينهما علاقة عابرة، بعدها ذهب كل واحد منهما في حال سبيله.
والآن؛ تُحاول صوفي معرفة والدها الحقيقي، بينما يُصر كل واحد من الرجال الثلاثة على أنه الوالد الحقيقي لها، في ظل حيرة من الأم التي تقتنع في كل مرة برواية طرف ثم سرعان ما تنساه وتتقبل رواية طرف آخر.
سجل الفيلم ردود أفعال الأبطال على أنغام مقطوعات موسيقية مثل، تشيكيتا، أو الطفلة الصغيرة، ونقود نقود، والفائز يحصل على كل شيء، ناقلا مشاعر الخطيئة والتسامح والغفران، بوصفها قيما إنسانية مشتركة تتداخل في ما بينها.
كما تعبر هذه الأغنيات عن الفرص الضائعة، وتذكر في الوقت نفسه أن هناك فرصا أخرى قد تسنح ولا يجب إضاعتها، وفقا لنجمة أفلام، الشيطان يرتدي برادا، وكرامر ضد كرامر، ميريل ستريب.
كان فريق آبا هوس الشباب في السبعينات، لا تخلو جدران غرفهم من صور أعضائه الأربعة. ونجحت ألبوماتهم في بيع أكثر من 380 مليون نسخة، وهو الرقم الأكبر في التاريخ بعد البيتلز وإلفيس بريسلي. ولا غرابة بعد ذلك أن يقول الناقد الفني أندرو هاريسون إن “فرقة آبا أشهر المنجزات السويدية بعد سيارة فولفو”.
ستظل الأجيال تنظر إلى فترة السبعينات من القرن الماضي بإعجاب، فهي الفترة التي أعلن فيها الشباب التمرد على سلطة العائلة والمجتمع، وظهرت فيها موسيقى الروك.
وطالما بقي هذا التوق للحرية، ستحافظ فرقة آبا ومعها ماما ميا على ألقها وشعبيتها. وعندما يعلن عن هزيمة فايروس كورونا ستعود أفواج السياح لتحجز مكانا لها على مدارج مسرح برنس أوف ويلز.
ولكن، لا تنسى أن تختتم السهرة بجلسة رومانسية تتناول خلالها العشاء في واحد من عشرات المطاعم التي تمتلئ بها منطقة ويست إند، في قلب لندن.