كورونا يجعل المصريين شغوفين بالحفلات الفنية دون جمهور

الشحذ الموسيقي خلال أزمة كورونا لم يقف عند الجهات الرسمية أو الفنانين، فقد بات الجميع نشطاء في ساحة الغناء، وهناك قوائم أغان عديدة تنشر يوميا من متطوّعين.
الأربعاء 2020/06/10
أنغام تتوهّج أكثر بحضور جمهورها، وفي غيابه يخفت بريقها

شهدت الساحة الموسيقية العربية تغييرا في نمط جماهيريتها في زمن اجتياح وباء كورونا العالم، فلم يعد الفيصل بين النجم والجمهور الاتصال المباشر وغناء الأول على وقع تهليلات الأخير وتقاطع صدى اسمه من أفواه معجبيه مع نغمات اللحن، بل أصبح التحدّي استحضار نبض الجماهير رغم غيابها عبر الغناء بالحماسة نفسها، فيما هناك ساحة شاسعة فارغة أمام المطرب، والنهل من مخزون التفاعل القديم لتقديم وجبة طازجة لا ينقصها الحضور.

القاهرة – تُحيي الفنانة المصرية آمال ماهر، الجمعة، حفلا موسيقيا جديدا دون جمهور، يبث مباشرة على الإنترنت وقناة “إم.بي.سي”، في طقس بات من تقاليد الموسيقى في زمن كورونا الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي.

أمام ذلك الاختبار، نجح البعض بتفوّق، في مقدّمتهم النجم المصري محمد منير، الذي لم يحتج أكثر من أن يبدو طبيعيا ليزداد بريقا في حفلة تم بثها في 2 يونيو الجاري، ليعود صبي الصوت بشهادة متابعيه، حتى وهو يحتاج إلى “عكاز” حسب وصفه، تمثلوا في ثلاث مواهب شابة قدّمها لمعاونته وهي: دينا الوديدي ونوران أبوطالب وأحمد زيزو.

وفي المقابل، هناك نجوم آخرون خفّ حضورهم قليلا في غياب الجماهير، ولم يستطيعوا اجتياز الاختبار بعلامات نهائية، وبدا المجهود ظاهرا في استحضار الحالة على خلاف سريانها بتلقائية مع التفاعل الجماهيري، وهو ما حدث مع المطربة أنغام التي تعدّ أحد أكثر المطربين جلبا للتفاعل الحي مع الجماهير، واتضح ذلك خلال حفلها في 26 مايو الماضي أمام سفح الأهرامات، حيث بدا وهجها جزءا رئيسيا من محبة الجمهور لها.

وغرّد مطربون آخرون خارج السرب، كما لو أنهم يغنّون لأنفسهم أمام المرآة غير عابئين بكآبة الفايروس وغير منشغلين بردّ الفعل، يغنون بسلاسة وبهجة حتى وافتتاحياتهم تتحدّث عن كورونا والأزمات الكثيرة التي تواجه المنطقة العربية. لكن وجبتهم جاءت خفيفة ومحبوكة، على سطح أحد الأبنية، بلباس “كاجوال” غير متكلّف، وهذه كانت حفلة الفنانة نانسي عجرم.

مشاهدة مباشرة

الفنان المصري تامر حسني الذي قدّم أولى حفلات عيد الفطر، تجاوزت مشاهدات حفلته 5 ملايين على يوتيوب، ليتصدّر قائمة الأكثر متابعة
الفنان المصري تامر حسني الذي قدّم أولى حفلات عيد الفطر، تجاوزت مشاهدات حفلته 5 ملايين على يوتيوب، ليتصدّر قائمة الأكثر متابعة

على خلاف السياقات التي قُدّمت فيها حفلات النجوم عبر الإنترنت والبثّ الفضائي، فقد حازت على تفاعل جماهيري غير مسبوق، تؤهّله الحاجة الماسة للمتابعين إلى تلك الوجبات الموسيقية، والأهم شعورهم بأنها تقدّم خصيصا لهم لأول مرة دون دفع آلاف الجنيهات لحضورها مباشرة، أو التنمّق بملابس معينة.

للمرة الأولى، كان السواد الأعظم من محبي الموسيقى متوسطي وقليلي الدخل، ممّن لا يستطيعون تحمّل تكلفة تذكرة، يجلسون مباشرة أمام مطربهم المفضل، يهلّلون له من خلف الشاشات، ويتوقّعون أنه يسمعهم، أو على الأقل من المتأكّدين من عدم وجود جمهور الصفوة أو “الساحل” كما يوصفون في مصر، أمام المطرب، فيما هم مجرد متفرّجون خلف الحواجز.

أصبحت تلك الفئة تنتظر بلهفة رؤية إطلالة مطربها أو مطربتها المفضلة في حفل حي، لا تتاح فرصة تكراره مرّتين، وهنا يكمن سرّ النجاح الجماهيري لتلك الحفلات، بناء على الإحصائيات.

وقاربت مشاهدات النجمين محمد منير وأنغام على الإنترنت المليون مشاهدة، ونانسي عجرم 2 مليون، وأكثرهم مشاهدة كان الفنان تامر حسني، الذي قدّم أولى حفلات عيد الفطر، وتجاوزت مشاهدات حفلته 5 ملايين على يوتيوب.

وأشارت رؤى محمد لشقيقتها خلال حفل محمد منير، وكتبت “حلمنا الآن تحقّق”، وتقصد حضور حفلة لنجمهما المفضل.

وتعدّ حفلة منير حالة خاصة من بين كافة الحفلات الأخرى، فهي لم تسهم فقط في تحدّي الحزن، بل حملت دروسا في الدعم الموسيقي والتبني، وقدّمت نموذجا لما يمكن أن يكونه الشخص حين يذوب في الشيء تماما.

أما درس التبني فقد لخّصه منير نفسه في تقديمه لثلاث مواهب، ووصفها بمساعديه وعكازه، وبخصوص الذوبان فهي حالة دوّن عنها الكثيرون، فكان العنوان الرئيسي للحفل “كيف ومنير مريض هكذا يردّد أغانيه بعنفوان شاب”.

لم تكن الحفلات بتلك الحالة سريعة النسيان، بل ظلت في ذاكرة المتابعين، أحدهم دوّن “رأيت حفلة منير أربع مرات والخامسة الآن شيء منتهى الجمال والمتعة”، وآخر علّق على حفلة تامر حسني بأنه شاهدها حية على التلفزيون ثم عاد ليراها ثانية على يوتيوب.

وأشاد الكثير من المتابعين بجدوى وأهمية تلك الحفلات في تحسين حالتهم المزاجية وفصلهم لبعض الوقت عن أخبار الوباء، وهنا كان الفن ينتصر بصورة واضحة للمعنى على حساب الربح.

ولا يعني ذلك انتفاء الربح تماما، فالحفلات لم يُعلن أنها مجانية، وجرت حفلة كل من تامر حسني وأنغام برعاية الشركة المتحدة للإعلام، وحفلة منير برعاية إحدى شركات الاتصالات الحكومية، وحفلة نانسي عجرم تترجم مشاهداتها عبر الإنترنت إلى دخل مادي محترم، لكن تظل تلك العائدات أقل ممّا يحقّقه هؤلاء النجوم في حفل يتطلّب حضوره دفع تذكرة بآلاف الجنيهات.

وإذا كانت هناك جهة مموّلة، وتلك الجهة ستجني أرباحا بطريقة أو بأخرى، فإن المشاهد خرج منتصرا من تلك المعادلة، وجلس ليقدّم له المعنى عبر غناء ورسائل دعم دون مجهود منه أو تكلفة.

عطايا موسيقية

آمال ماهر تحيي، الجمعة، حفلا موسيقيا جديدا دون جمهور
آمال ماهر تحيي، الجمعة، حفلا موسيقيا جديدا دون جمهور

لا تتوقّف عطايا كورونا في الموسيقى على ذلك، فقد سبق الحفلات الحية جهد من وزارة الثقافة المصرية، لدعم بقاء المواطنين في منازلهم، عبر إتاحة مادة موسيقية وفنية للمرة الأولى، بالتعاون مع دار الأوبرا ومكتبتها الموسيقية.

ويتضمّن المحتوى المقدّم مجانا عبر قناة وزارة الثقافة على يوتيوب، تسجيلات لحفلات الموسيقار عمر خيرت وأنغام وأصالة وريهام عبدالحكيم في صدحها بأغاني أم كلثوم، وعروض باليه ومسرحيات ولقاءات نادرة.

وتمكّنت تلك الحفلات حتى وهي مسجلة من جمع ملايين المشاهدات، وتصدّرت “ترند” مواقع التواصل عند عرضها، خصوصا حفلة الموسيقار عمر خيرت.

وفي الظروف الطبيعية، يقدّم الموسيقار حفلتين شهريا في دار الأوبرا، سعة الحفلة 1200 متفرج، أي يسمعه على مدار الشهر 2400 شخص، بفرض أن الحفلات كانت مكتملة للغاية.

وفي غضون أيام منذ بثّت الوزارة أول حفل لعمر خيرت على قناتها جاوزت المشاهدات المليون مشاهدة، أي أن المنفعة مشتركة. صحيح أن الجماهير متعطشة للفن الراقي، وقد مهّد له كورونا الأرض ليصل إلى ديارها، لكن المؤسّسات الرسمية والفنانين من المستفيدين أيضا، بزرع نبتات وذكريات وجسور مع تلك الفئات الجماهيرية التي لا تملك بزات منمّقة لحضور حفلاتهم الموسيقية.

وقالت وزارة الثقافة المصرية في بيان يرصد الحالة غير المسبوقة من التفاعل معها، إنه بعد 10 أيام من انطلاق مبادرتها “خليك في البيت”، رصدت مليونية إلكترونية عالمية لوزارة الثقافة المصرية على اليوتيوب تضمنت 11.5 مليون زائر لقناتها من 25 دولة حول العالم. ولم يقف الشحذ الموسيقي عند الجهات الرسمية أو الفنانين، فخلال أزمة كورونا بات الجميع نشطاء في ساحة الغناء، وهناك قوائم أغان عديدة تنشر يوميا من متطوّعين.

وقامت إحدى المجموعات على فيسبوك بابتكار حدث قبل أسابيع يقوم بصورة أساسية على تبادل الأغاني المفضلة بين أعضائه، مع إتاحة فرصة لكل مشارك للحديث عن أغانيه ونقدها، والحديث عن ذكرياته معها، أو حتى دندنتها، فخلال كورونا تراجعت قيمة خامة الصوت، وباتت مواصلة القدرة على الغناء رغم الأحداث هي الهدف.

وأتاح وباء كورونا لبعض الشباب الفرصة لتعديل ذوقهم في الغناء، والاستماع إلى ألوان جديدة غير مألوفة بالنسبة إليهم، ومن هؤلاء إيمان عبده (27 عاما) التي اكتشفت روعة أم كلثوم حديثا، بعدما أتاحت لها أوقات الحظر الطويلة فرصة الاستماع.

وقالت لـ”العرب”، “من قبل كنت أتعجّب ممّن يقضون ساعات في الاستماع لأغاني هذه السيدة، وكنت أعتبرها طويلة ومملّة دون تجربة حقيقية، لكن بعد كورونا دقّقت السمع وبتّ واحدة ممّن ينفقون تلك الساعات بسعادة وشغف”.

وإيمان ليست الوحيدة التي أصبحت أكثر تعلقا بالموسيقى، فهي ضمن الملايين الذين يلتمسون عندها تخفيف توترهم وقلقهم، ويترقّبون العلاج من الفايروس القاتل وعودة الحياة إلى طبيعتها فيما يهمسون “لسّه الأغاني ممكنة”.

15