فضاء تشكيلي افتراضي في مواجهة الجائحة

كيف ستكون الحياة بوجود وباء كورونا وغياب الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي؟ الخوف سيتضاعف، ويزداد الشعور بالعزلة، وقد يلجأ الناس للانتحار، ورغم أن الفنان بطبعه ميال إلى العزلة، إلاّ أنها عزلة اختيارية، لذلك نراه في ظل العزلة الاجتماعية المفروضة عليه، أول المتمرّدين الداعين إلى التقارب الافتراضي واكتشاف فضائله.
لماذا نتحمل عناء التنقل إذا كانت اللوحة تصلنا أينما كنا، عبر الفيسبوك أو عبر ماسنجر أو البريد الإلكتروني؟
الفنانون التشكيليون الذين اعتادوا التواصل مع جمهورهم من خلال صالات عرض، اكتشفوا فجأة أنهم فقدوا نصيرا عزيزا بعد انتشار فايروس كورونا واضطرار أصحاب الصالات إلى إقفال الأبواب مُرغمين.
فقدان “الراعي”، هذا ما يُطلق عادة أصحاب صالات العرض، لمّا توقّف الفنانون عن الإنتاج؛ أُتابع يوميا عشرات الأعمال لفنانين أصدقاء ينشرون أعمالهم على صفحاتهم الخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي.
العزل الاجتماعي، الذي اتبعته الدول للوقاية من انتشار الفايروس، لم يوقف الفنانين عن الإنتاج، بل يبدو أن المعاناة زادتهم إصرارا على العمل، والأهم أنها قرّبت بينهم وبين جمهورهم.
الفنان، التشكيلي خاصة، كائن فردي بطبعه عندما ينكبّ على عمله، والعزلة الاجتماعية جزء من طقوس يُمارسها من حين لآخر.
خلال 23 يوما، هي عدد الأيام التي التزمت خلالها المنزل، أدمنت على تقليب صفحات التواصل الاجتماعي للأصدقاء، لمتابعة آخر أعمالهم، وأكاد أجزم أنكم جميعا تقومون بنفس الطقس يوميا، ليس فقط بحثا عن آخر تطوّرات الوباء، بل أيضا لمُتابعة إبداعات أصدقائكم أو إبداعات آخرين لم يسبق لكم أن قابلتموهم.
فجأة اكتشفنا أكبر فضاء افتراضي، مفتوح أمامنا 24 ساعة في اليوم، ندخله دون استئذان.
الأسئلة الملحّة الآن التي يجب على العاملين في مجال التسويق الفني البحث عن إجابات لها هي، ما هو مستقبل صالات العرض كفضاء لتسويق العمل الفني، وما هو الشكل الذي سيتّخذه سوق الفن بعد القضاء على الفايروس؟
هناك شبه إجماع على أن العالم لن يعود لما كان عليه قبل الجائحة، وسيبقى الفضاء الافتراضي سيّد الموقف. بالطبع اكتشاف الإنترنت كوسيط للعرض والتسويق ليس وليد اليوم، هناك أدلة كثيرة على أن العاملين في هذا القطاع سبق لهم أن وظفوا هذه التكنولوجيا للترويج، سواء لأعمالهم، أو أعمال الآخرين، كما فعل أصحاب الصالات الفنية.
ولكن، حتى اليوم كان يُنظر إلى هذه الوسائل كوسيط مُساعد، وهذا ما يُشكّك الخبراء باستمراره، بعد أن اكتشف الفنان الإمكانيات التي وضعتها الإنترنت أمامه للتعريف بأعماله، وتسويقها أيضا. سواء كان ذلك بجهد ذاتي، أو بإسناد الأمر لخبراء يلجأ إليهم في هذا المجال.
بالطبع لا يُفهم من عزلة الفنان أنه معزول عن مشاكل العالم وهمومه، ورغم أن كيمياء إبداعهم، كما يقول الفنان والناقد التشكيلي السوري، طلال معلا، تتفاعل مع العزلة، إلاّ أن “عزلتهم ليست انعزالا ولا ترفّعا”، حيث التقى 14 فنانا سوريا على مبادرة أطلقوا عليها “ريشة ترسم التكافل”.
ويُشكّل انتشار فايروس كورونا تحديا بالنسبة لسوريا، التي عانت طويلا وما زالت تُعاني من اقتتال فرضه عليها الإرهاب والتدخّل الخارجي، خاصة في ظل نقص في التجهيزات الطبية والمواد الغذائية.
وتأتي المُبادرة التي يُسهم فيها الفنانون بأعمال لهم، خصّصت مبالغ بيعها لتقديم العون لأسر تضرّرت من الحجر وانقطاع أفرادها عن العمل. وحثّ الفنان معلا الجمهور الافتراضي على شراء اللوحات المعروضة، قائلا لهم “المُبادرة تحتاج لتفاعلكم ودعمكم كي تحلّق عاليا، ولكي نبرهن أن السوريين متكافلون، وأن الفن هو خشبة إنقاذ للروح والجسد”.
ومن بين المُساهمين في المبادرة أسماء فنانين بارزين في الساحة السورية والعربية وحتى العالمية، منهم النحات مصطفى علي، والرسام غسان نعنغ، وعبدالله مراد، ونزار صابور وإدوارد شهدا.
إلى جانب هؤلاء الذين وظفوا الإنترنت في سبيل أعمال خيرية، هناك أيضا من يُتابع نبض الشارع ويعكس مخاوفه، وما كان لتلك الأعمال أن تخرج إلى النور وتنتشر دون ثقة الفنانين بهذا الفضاء الافتراضي الذي وفرته لهم الإنترنت. ومن بين الأعمال التي تستحق وقفة أمامها، ثلاثة أعمال، عبّرت عن المأساة التي يشهدها العالم كل حسب طريقته.
عصام درويش، اختار أعمالا قديمة جديدة تُناسب اللحظة التي نعيشها يفتتح بها صفحته على الفيسبوك؛ مخاوف البشر لحظة مواجهة الكارثة، العمل الذي أنجز عام 2016، وكان بمثابة احتجاج وإدانة صامتة لما تشهده الساحة السورية من عنف.
اختزال بالشكل واللون، يكِدّ من خلاله الفنان عمق المأساة، مركزا على ملامح وتعبيرات، وكأنها التقطت بعدسة مُقرّبة.
وبينما اختار عصام الشكل الإنساني، الوجه بالتحديد، لجأ طلال معلا في عمل باللون الأسود والأبيض، إلى إبراز أهمية الكتاب في زمن الحجر عَنونه بـ”تأمل في الحجر.. ذكرى مكتبتي المنهوبة” وكأننا به يُريد أن يُذكّرنا بالقول الشائع، في الليلة الظلماء يُفتقد البدر. نعم في يوم الحجر والعزلة المفروضة علينا يُفتقد الكتاب.
الفنان الذي استطاع دوما أن يمزج بين الدراما والسخرية النبيلة، منذر المصري، أحرج أصدقاءه برسم سريع، عَنونه “ربما – كورونا للمرة السادسة” لا ندري ونحن نتأمّله هل نحزن أم نبتسم بمرارة؛ إنها طريقة منذر في الشعر وفي الرسم وفي الحياة أيضا؛ طريقته ليقول أنا متفائل، وإن التشاؤم لحظة عابرة في حياة الإنسان.
لا نعلم بالتحديد كم سيلتهم الوباء من ضحايا، قد نبقى لنكون شهودا على زمن كورونا، وقد نرحل، ليتحدّث الآخرون عنا، وفي كلتا الحالتين الفن هو ما سيبقى وينتصر في النهاية.