كيف نشاهد الأفلام من دون ترجمة

في هذا المقال استعادة جانب آخر من تجربة نادي القاهرة للسينما من منتصف الستينات إلى منتصف سبعينات القرن الماضي، مع توقف أمام بعض الأفلام التي كانت ترد على النادي دون ترجمة وكيفية قراءتها ومتعة التعامل معها.
كان يوجد في نادي السينما بالقاهرة “لوبي” خاص بالفرانكفونيين، الذين يجيدون الفرنسية، وكان من أشهرهم الدكتور رفيق الصبان ويوسف شريف رزق الله وصبحي شفيق. وكان هذا اللوبي أكثر اهتماما بالضرورة بالسينما الفرنسية والمخرجين الفرنسيين.
وعندما عرض فيلم “الجزار” لكلود شابرول الذي أتى به الناقد الفرنسي ميشيل كلوني (في 4 أبريل 1973) لم تنشر نشرة النادي المصاحبة للفيلم تتابع المشاهد، بل نشرت ملخص الفيلم مترجما من “نشرة الفيلم الشهرية”، وترجم يوسف شريف رزق الله دراسة قصيرة عن الفيلم للناقد الفرنسي أندريه كورنان، نقلا عن مجلة “إيماج أيه سون” (صوت وصورة) الفرنسية.
كما كتب الدكتور رفيق الصبان مقالا بعنوان “كلود شابرول وعالمه السينمائي”، وترجم حوارا مع شابرول عن فيلمه هذا عن مجلة “سينما” الفرنسية، وترجم يوسف شريف حوارا آخر مع شابرول عن مجلة “بوزيتيف”.
أي أننا كنا باستمرار على صلة وثيقة مع ما ينشر في أهم مجلات السينما الفرنسية بفضل جهود أصدقائنا “الفرانكفونيين” الذين كانوا يشترون هذه المجلات أو يحصلون عليها بانتظام عن طريق نظام الاشتراكات قبل أن يتدهور البريد المصري ويصبح أثرا من بعد عين، كما تدهورت العملة المصرية.
تنوع الثقافات السينمائية
أما الحصول على الكتب والمطبوعات من خارج مصر فكان ممكنا ومتوفرا عن طريق هيئة البريد المصرية العريقة في عصر “الانغلاق”، وأصبح شبه مستحيل في عصر “الانفتاح” الاقتصادي المصري. أما اليوم فقد أصبح الكثير من المطبوعات السينمائية، متاحا على شبكة الإنترنت، سواء لمن يدفع أو مجانا. وهو التطوّر “الثوري” الذي جعل مصادر المعرفة متاحة أمام الشباب سعداء الحظ من الجيل الحالي. جيل عصر الإنترنت.
لم تكن كل الأفلام الأجنبية التي يعرضها نادي السينما بالقاهرة في ذلك الزمان، مترجمة أو عليها ترجمة على نفس شريط الفيلم. كانت هناك أفلام مصحوبة بترجمة عربية لو كان الفيلم سيوزّع أو أتى للعرض في دور العرض المصرية. ومنها طبعا ما كان النادي يحصل عليه من الشركة الموزعة قبل توزيعه تجاريا، وكثيرا ما كان يحصل على بعض هذه الأفلام من الرقابة، أي وهي ما زالت في مرحلة المراقبة وتقرير ما إذا كانت ستعرض أم لن تعرض وماذا سيحذف منها.. إلخ.
أما الأفلام الأخرى الأجنبية فكانت تكتفي بالترجمة الإنجليزية على نفس الشريط. ولكن كانت هناك أفلام غير مصحوبة بترجمة على شريط الفيلم. ومع ذلك لم يكن ممكنا ألاّ تعرض في النادي فقد كانت من العلامات في سينما الفن والفكر الرفيع.
وكان النادي يقتنص مثل هذه الأفلام ويأتينا بها عن طريق العلاقة مع المراكز الثقافية الأجنبية، وخاصة المركز الثقافي الإيطالي الذي كان شديد الاهتمام بالسينما، وكان ينظم أيضا عروضا منتظمة للأفلام الإيطالية. وفيه شاهدت على سبيل المثال، عددا من أهم وأفضل أفلام المخرج فيلليني، ولكن من دون أي ترجمة من النسخة الإيطالية.
دور العرض المصرية كانت تعرض أفلاما من إيطاليا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي وألمانيا
وهو درس لا أنساه في التعامل مع الفيلم، بل وأنصح به المبتدئين الراغبين في التعرّف على ثقافة الصورة. صحيح أن مشاهدة فيلم ما دون فهم اللغة التي ينطقها الممثلون، تعتبر معضلة، لكني وجدتها متعة خاصة. فقد كنت أفهم ما يقال من خلال سياق السرد، وكنت أرجع بعد ذلك لكي أقرأ عن الفيلم وموضوعه وطريقة إخراجه.. إلخ. ثم أعود لمشاهدته بعد أن تكون قد توفرت منه نسخة مترجمة للإنجليزية أو للعربية.
في أوائل عام 1969 نجح النادي في الحصول على نسخة من الفيلم الفرنسي “الراهبة” (La Religieuse 1966) الذي أخرجه جاك ريفيت، أحد رواد الموجة الجديدة الفرنسية، وأحدث ضجة كبيرة في فرنسا بسبب جرأة موضوعه الذي يتناول الاعتداءات الجنسية التي تحدث داخل الكنيسة الكاثوليكية على الراهبات، ممّا أدى إلى حظر عرضه في فرنسا بعدة سنوات (ألم يصبح موضوع الاعتداءات الجنسية داخل الكنيسة موضوعا مطروحا في جميع وسائل الإعلام اليوم؟).
وقد عرض هذا الفيلم في النادي دون ترجمة فورية وكان ناطقا بالفرنسية. واعتذر رئيس مجلس إدارة النادي حسن عبدالمنعم لأعضاء النادي عن عرضه دون ترجمة مع تعويض ذلك بنشر الكثير من المعلومات عن الفيلم. وهو أمر جيد ومحترم، أقصد وجود “ثقافة الاعتذار” التي نفتقدها تماما اليوم.
أما ما ينبغي التوقف أمامه، فهو أن الفيلم جاء إلى مصر من قبل “شركة القاهرة للتوزيع السينمائي ودور العرض” وهي شركة تابعة للدولة (قطاع عام).
حدث ذلك حين كان لدى الدولة مشروع ثقافي وكانت ثقافة السينما أمرا يُنظر إليه باحترام، لذلك شهدت الفترة من منتصف الستينات إلى منتصف السبعينات، عرض عدد كبير من أهم الأفلام في دور العرض المصرية، من إيطاليا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي وألمانيا وغيرها. أين نحن الآن من هذا العصر بعد أن انفردت سينما هوليوود بأفلامها الشائعة، بالساحة!
تحفة برتولوتشي
في 11 أبريل 1973 عرض النادي فيلم “إستراتيجية العنكبوت” (1970) لبرتولوتشي من دون ترجمة مطبوعة، ومن خلال ترجمة فورية كانت تضايق الجميع. فقد كان صوت المترجم يطغى على أصوات الممثلين في الفيلم، ويقع التداخل بين الأصوات بحيث تُفقد متعة المشاهدة. وكان التصرّف المعتاد في هذه الحالة أن يصحب الفيلم ترجمة فورية بالميكروفون (من دون سماعات شخصية لكل مشاهد)، أي أن الجميع كان يتعيّن عليهم الإنصات إلى ما يقوله المترجم.
وكان المترجم عادة من نقاد السينما مثل أحمد الحضري وسامي السلاموني، وكانا يترجمان عن الإنجليزية، أما في حالة فيلم برتولوتشي ثم فيلم “ساكو وفانزيتي” (1971) لجوليانو مونتالدو، فقد تولى مترجم محترف ترجمته من الإيطالية حسب ما أتذكر. لكن أتذكر أيضا أن الدكتور أنور خورشيد أستاذ التصوير السينمائي بكلية الفنون التطبيقية، كان أحيانا ما يترجم لنا عن الإيطالية. وكان خورشيد قد درس في إيطاليا، كما كان يكتب دراسات عن الأفلام في نشرة النادي.
حظي فيلم “إستراتيجية العنكبوت” باهتمام كبير، وأنا شخصيا أعتبره أفضل أفلام برتولوتشي كلها ويجب أن يشاهده المهتمون أكثر من مرة، ولا يزال لهذا الفيلم سحره ورونقه بعد مرور كل تلك السنين، بسبب معاصرة موضوعه وتفرّده في الأسلوب وطريقة المعالجة لموضوعه، وهي من سمات الفن العظيم الذي يصلح لكل زمان ومكان.
"الراهبة" فيلم أحدث ضجة كبيرة بسبب جرأة موضوعه الذي يتناول الاعتداءات الجنسية التي تحدث داخل الكنيسة الكاثوليكية على الراهبات
والغريب أن هذا الفيلم تحديدا لم يُقْدم أحد من نقاد النشرة على تقديم دراسة تفصيلية له رغم نشر تتابع مشاهده كالمعتاد، بل اكتفى بنشر مقالات مترجمة حوله مع مقابلات مع مخرجه.
إلاّ أن صديقنا يسري نصرالله، وكان يكتب النقد قبل أن ينتهي من دراسة السينما ويصبح مخرجا، كتب مقالا عنه جاء فيه “يتميز أسلوب برتولوتشي في هذا الفيلم بالأوبرالية في أحيان، وفي أحيان أخرى يذكرنا بالمسرح من حيث الكثافة الدرامية في بعض المشاهد، وهو يشبه في ذلك فيسكونتي”.
ويسترسل “هناك مثل واضح لهذا التشابه بين فيلم ‘الإستراتيجية’ وفيلم ‘الملعونون’، فمشهد الحقيقة في نهاية فيلم برتولوتشي عندما يواجه أصدقاء الأب الابن بحقيقة مقتل الأب والإضاءة الزرقاء تعطي وجوه الشخصيات طابع الأشباح. يذكرني بمشهد ‘السلم’ في نهاية فيلم ‘الملعونون’ عندما ينقلب مارتين على أمه صوفي ويرفض إطاعة أوامرها ويضربها على السلم والإضاءة الخضراء في هذا المشهد تعطيه طابعا ساما”.