اللّوحة

أقف الآن على المنصة، أحمل اللوحة بيد، والجائزة بيد، أنظر إلى الجمهور الذي تغص به القاعة، وهو يصفق، وزغاريد النساء تتعالى.. أنحني تحية لهم، أرفع رأسي، أرى وجهك بين الحضور وقد اكفهرت أساريرك، وانتفخت أوداجك، وأخرجت مسدسك، وأفرغت رصاصاته في لوحاتي، وألواني.
كان دمي ينزف، والألوان تسيل من العلب، والقارورات، وتلطخ سطح الغرفة، وأنت تصرخ في هستيريا:
– لا أريد هذه اللوحات في بيتي، لا أريد لهذه الشخوص أن تزاحمني مكاني، أبعدي عبثك هذا عني. تكلمت، وتكلمت، كنت أفهم شيئا، وتغيب عني أشياء، وأنا مكومة في الزاوية أنتظر دوري، أنتظر الرصاصة التالية تقطع شرايين القلب، وتسكت صوتي الطالع من لوحاتي.
كم مضى من الوقت، وأنا مكومة هناك؟.. لا أذكر سوى صوت الممرضة وهي تقول: إنها الآن في أحسن حال، لقد استعادت وعيها.
يومها تمالكت أعصابي، حاولت بكل قوتي، بكل إيماني أن أظل ثابتة، وألا أفقد نور عقلي، ولا أرى جسدي يفقد لونه.
تحسست أعضائي عضوا عضوا، وحمدت الله أن أصابعي مازالت تنبض. يومها غادرت زمنك، حملت حقائبي الصغيرة، ورحلت بعيدا. اقتطعت ذاتي من ذاتي، ضمدت الجرح بعظمي، وفتحت الدرب الذي لست فيه، ومشيت.
كم مضى من عام؟.. سنوات العمر تمر، والأحلام التي رسمت ألوانها ذات مساء خريفي، وأنت تقف أمام لوحة من لوحاتي في معرضي الأول بتلك المدينة التي شهدت طفولتي وصباي، ولونت أحلامي الصغيرة بألوان قوس قزح.. وقفت طويلا أمام تلك اللوحة، كانت امرأة قد استضاء وجهها وهي تخرج من ظلال الليل لتتلون بنور الشمس.. في نظرتها كان التحدي، وفي ابتسامتها كان السكون. قلت لي يومها:
– أعجبتني هذه اللوحة، أحب المرأة التي تنظر دائما نحو الشمس، نحو الأفق البعيد متحدية، مصرة على أن تلامس بيديها النور مهما كانت شدة العتمة التي تحاصرها فهل أنت مثلها؟
أجبتك:
– ربما.
ولكن في أعماقي، أعجبتني كلماتك، أردت أن أعبر لك عن إعجابي بتفكيرك، بتحليلك ولكني التزمت الصمت، وانصرفت.
في صباح الغد سبقتني إلى المعرض، وجدتك واقفا أمام اللوحة كما أمس. اقتربت منك، وقبل أن أتكلم بادرتني:
– لا تعجبي، شدتني هذه اللوحة فأردت أن أعود لأتأمل خطوطها، وأستشف خباياها، ولم لا أشتريها إذا أمكنني ذلك؟!
وبلهفة لم أعهدها في تصرفاتي قلت لك:
– هي هدية لك، تعال وخذها يوم انتهاء المعرض، ستجدني في انتظارك. أنا متأكدة أنك ستحفظها كما تحفظ هذه الرموز التي تزين كتفيك.
ابتسمت وأتت ترد:
– سأضعها في أفضل مكان أراه، ستكون مؤنسة لي، تودعني عند المغادرة، وتستقبلني عند العودة.
لكم أسعدتني تلك الكلمات، وكأنها كانت لي أو كأني أردتها أن تكون لي!
كنت أتمنى ألا تنقضي أيام المعرض، وأن تظل لوحاتي معروضة للناس، وأنا أجول بينهم أرى الدهشة في عيون هذا، وأقرأ السؤال في عيون ذاك، وألمس الإعجاب في نظرات تلك، فأخالني أميرة تقطف الورد من حديقتها المفتوحة على الأحلام الجميلة، لكن فجأة وجدتني أستعجل الأيام لتنتهي مدة المعرض، وأراك مرة أخرى.
وحانت لحظة اختتام المعرض، وجدتك كما ذلك اليوم واقفا أمام اللوحة، ودون أن أعير انتباها لمن حولي أسرعت إليك كطفلة مزهوة بهدية جاءتها على حين غفلة. أمسكت بيدك، وأنا أقول:
– خذ اللوحة هي هدية لك كما وعدتك، لن أكتب عليها إهداء فهي الإهداء، والأغلى يهدى إلى الأغلى.
كأن تلك الكلمات التي لا أدري كيف خرجت من أعماقي قد لامست شغاف قلبك فافترقت شفتاك عن ابتسامة صغيرة أوحت لي بسعادة غامرة قد جللت محياك.
وأنت تحمل اللوحة أحسست أنك تحمل وليدا بين يديك، شعرت بالسرور لأن لوحتي العزيزة على قلبي ستكون في يد آمنة، وأحسست بالغيرة لأنها ستكون معك، وأكون أنا بعيدة.
لم تطل الأيام، وإذا بك تقف أمام باب المعهد، ودون مقدمات طلبت الارتباط بي، ودون أن أفكر قبلت.
لم أحاول أن أسأل من أنت، وكيف هو ماضيك، وما المستقبل الذي تفكر فيه، ولم أعر تحذيرات أمي اهتماما.
قادتني مشاعري إليك فراشة، أرادت للدرب أمامها أن يستنير، فأحرقها نور المصباح قبل أن ترى ما حولها.
مضت الأيام الوردية، الأيام الحالمة سريعا، وارتديت ملابسك الأولى وأعلنت عنك كما لم أرك، كما لم أستشعرك، قذفت بي من أعلى الصخرة لأرتطم بموج لم أعرف كيف أقاومه.
وجدتني وحدي في مواجهة ماضيك: كانت هنا تملأ حياتك، وكنت هنا تصنع الأحلام لك ولها، كنت منتش بوجودها، وعندما أفقت وجدت لها أحلاما أخرى، وأنك لم تكن في حياتها سوى عابر سبيل ينتهي زمنه في اللحظة التي تختارها له.
فتشت عنها، وفتشت، ولم تعثر على أثر لها، ضاقت الدنيا بك على اتساعها، وأقسمت على الانتقام فأحرقت كل السفن التي قد تبحر بك نحو شاطئ الأمان.
رأيتك تخرج من بين الحضور، كنت أنت، كان وجهك الحاضر الغائب، كنت تقترب، وكنت أبتعد.
ممرّ ضيق بين مبنيين.
الرسالة بالعامية الجزائرية.
حزام يتشكل من دراهم ذهبية، تزيّن به النساء فساتينهن في بعض المناطق.