الأبوة الزائدة تخلق جيلا مفرطا في الاتكال

المبالغة في حماية الأبناء تصيبهم بالنرجسية والكسل وتضرّ بصحتهم النفسية.
الاثنين 2020/02/03
لا إفراط ولا تفريط

يعيش الآباء والأمهات في وقتنا الحاضر حالات من الخوف المتزايد على الأطفال، نظرا إلى فقدانهم الثقة في المحيط الاجتماعي بسبب تزايد نسب الاعتداءات الجسدية والجنسية ضد الأطفال في جل المجتمعات، ولا يكترث الأطفال لمخاوف الآباء، التي يعتبرونها أمرا مبالغا فيه ويقيد حريتهم ويتوقون إلى التخلص من سيطرتهم، إلا أن المبالغة يمكن أن تكون نتائجها عكسية وقد تحمي الأبناء إلا أنها تنعكس سلبا على تكوينهم النفسي وعلى قدرتهم على مواجهة الصعاب التي تعترضهم في حياتهم.

لندن – يسيّر الكثير من الآباء والأمهات جميع شؤون أبنائهم في شتى مراحل حياتهم، ويتدخلون في كل جزئياتها بدافع الخوف عليهم والحرص على حمايتهم، إلا أن التجارب والبحوث أثبتت أن التأثير السلبي لخوف الآباء والأمهات المفرط على الأبناء يتجاوز التأثير الإيجابي.

وأكد المختصون أن رغبة الآباء في أن يكونوا حراسا شخصيين لأبنائهم لها نتائج سلبية في أغلب الأحيان، حيث يمكن أن ينجم عن ذلك جيل ضعيف الشخصية غير قادر على تحمل أبسط المسؤوليات ومجابهة الصعوبات الحياتية التي تعترضه في المستقبل.

كما لفت خبراء التربية إلى أن الخوف المبالغ فيه على الطفل يقيده ويصنع منه شخصية اتكالية فاقد للثقة في نفسها، وأشاروا إلى أن الحب المفرط للأبناء يصيب الكثير من الآباء والأمهات باضطراب الخوف الزائد عليهم، مما يدفعهم إلى إحاطتهم بجملة من المحاذير دون أن يدركوا أنهم باتباع مثل هذه السلوكيات يدمرون شخصية طفلهم.

ويعتقد الكثير من الآباء أن حرصهم على السيطرة على تحركات أبنائهم سوف يحميهم ويجعلهم ينصاعون إلى أوامرهم، إلا أن الأبناء في الكثير من الأحيان يبحثون عن حلول للتخلص من الخناق المسلط عليهم.

وكشف المختصون أن رغبة الآباء في أن يقضي أطفالهم طفولة سعيدة ومثالية تدفعهم إلى اتباع أسلوب الحماية المفرطة، ظنا منهم أنهم يصونونهم من المخاطر التي قد تعترضهم، إلا أن هذا الأمر يعد صعبا جدا نظرا إلى كم المشكلات والصعوبات التي ترافق مسيرة حياة كل شخص، لذلك من المهم أن يجد الطفل أو المراهق أساليب دعم من قبل الوالدين تعلمه الاعتماد على نفسه، ولن يكون ذلك إلا بصنع شخصية قوية قادرة على مواجهة كل المشكلات، بعيدا عن الخوف المفرط الذي لا ينتج إلا شخصية هشة.

شدة خوف الآباء والأمهات على الأبناء تقتل أحلامهم وتحبطهم كما تثير مشاكل نفسية وجسدية لهم وتصيب شخصياتهم

وقالت الكاتبة الإسبانية، إيفا ميليت، في كتابها “الأبوة المفرطة”، “إن الحماية الزائدة للطفل من شأنها أن تخلق جيلا مدللا وضعيفا ومفرطا في الاتكالية وغير قادر على حل مشكلاته”.

وأوضحت أن من سلبيات هذه الطريقة هي إثقال برنامج الطفل بالعديد من المهارات التي عليه تعلمها ليصبح طفلا مثاليا، يتعلم اللغات والموسيقى والرياضة، بينما قد لا يمكنه في المقابل ترتيب سريره، فضلا عن حرمانه من اللعب بشكل حر.

ومن جانبه قال الدكتور جون بياسينتي، مدير برنامج الطفولة والقلق وتشخيص وإحصاء الاضطرابات النفسية في معهد سيميل للسلوك العصبي والسلوك الإنساني في جامعة كولومبيا بلوس أنجلس، “يميل معظم الناس إلى عدم أخذ القلق على محمل من الجد. وحتى إن فعلوا فإنهم يعتقدون أن القلق ليس له نسبيا أي أثر سلبي على الصحة أو الشخصية. لكن الحقيقة غير ذلك، فالقلق يمكن أن يعيق الشخص عن أداء عدد من وظائفه السلوكية. فهناك بعض أنواع القلق الحاد السائدة التي تسلب من المصاب بها القدرة على عيش حياته اليومية الروتينية بشكل طبيعي”.

وبينت أستاذة الطب النفسي وعلوم السلوكات الحيوية في جامعة كولومبيا في لوس أنجلس تارا بيريس، أن “تعليم الأطفال وتلقينهم صفات أو قيما معينة يتم على مستويات مختلفة”. فالآباء القلقون يستخدمون لغة تتسم دوما بالحيطة والحذر الزائدين مقارنة بغيرهم من الآباء غير القلقين. فهم مثلا قد يرددون على مسامع أبنائهم بشكل متكرر عبارة “كن حذرا، توخ الحذر، قُد سيارتك بأمان” وغيرها من التعليمات. كما أنهم يميلون إلى منح أولادهم استقلالية أقل، حتى في المهام المنزلية اليومية الروتينية. إذ تجد بعض الآباء لا يسمحون لابنهم البالغ 12 سنة باستخدام الفرن أو الذهاب وحده لزيارة صديق يسكن بالجوار.

وأكدت ميليت أن الأطفال تحولوا في الآلاف من المنازل العصرية إلى مركز اهتمام العائلة، أو المركز الذي يدور بقية الناس في فلكه، مشيرة إلى أن سبب هذه الاختلالات في السلوك هو أن الأطفال لا يضطرون إلى الخروج من شرنقتهم عند سن الرابعة. وبعد هذه السن، يصبحون عاجزين عن توجيه أنفسهم ذاتيا في الشارع، أو إنجاز فروضهم المنزلية، أو مساعدة الأبوين، أو حتى الاهتمام بأنفسهم عند عدم وجود شخص كبير يهتم بهم.

من أجل أطفال سعداء
من أجل أطفال سعداء

كما أفادت بأن الباحثين في الجامعات الأميركية لاحظوا في بداية القرن الحادي والعشرين أن الشباب الذين ينتقلون من المدرسة الثانوية إلى الجامعة عاجزون عن تحمل مسؤولياتهم بأنفسهم، كما أن ذويهم هم من يسافرون بهم من مدينتهم إلى الجامعة ويساعدونهم على تسلم الغرفة وتنظيم أغراضهم، وحل جميع المشكلات والمفاجآت التي قد تطرأ.

وكشفت ميليت أن هناك جملة من العوامل الاجتماعية والديموغرافية التي تقف وراء هذه الظاهرة، مبينة أنها عندما كانت طفلة، كانت تطلعات الآباء وتوقعاتهم لأبنائهم متواضعة. فقد كان عليهم فقط الاجتهاد في المدرسة وتحسين سلوكهم ليكونوا أناسا محترمين، مضيفة “لم نكن نمثل محور حياة آبائنا“.

وتابعت “أما الآن، باتت العائلات أقل عددا والآباء يمتلكون أكثر مالا، ويوجهون كل اهتماماتهم نحو الطفل. بالإضافة إلى ذلك، أصبح أغلب الأشخاص يؤسسون عائلات في سن متأخرة بعد خوض تجربة العمل. لذلك، يتعاملون مع تربية الأطفال كما لو أنها إدارة شركة، وليس حسب الطرق التقليدية الملائمة. أما بالنسبة للطبقة الوسطى والثرية، فقد أصبح تدليل الأطفال وتقديم الأشياء الثمينة لهم مظهرا من مظاهر الرياء، وسباقا حقيقيا بين الآباء لتوفير كل شيء”.

ومن جانبها أفادت سيلفيا ألافا، صاحبة دراسة “نريد أطفالا سعداء”، بأن هناك علامات ترتبط بهذا النوع من الأطفال. فهم لا يطورون مهارات كافية، ويواجهون صعوبات في حل الصراعات، لأنه لطالما تكفل آباؤهم بهذا الأمر.

وأضافت “هؤلاء الأطفال يكسبون أصدقاء، ولكنهم يضطرون إلى بذل جهد كبير للحفاظ على الصداقة لأنهم لم يتعودوا على الأخذ والعطاء. كما يعتبر الأطفال من هذا النوع حساسين جدا تجاه الضغط النفسي، خاصة أنه يسمح لهم في الغالب بتناول الحلوى عوضا عن الطعام المفيد، وتجنب أخذ حمام لمجرد أنهم منهمكون في اللعب، وبالتالي، يبدو جليا أن هؤلاء الأطفال لم يتعلموا كيفية مواجهة صعوبات الحياة”.

كما قال المختصون إن الحماية المفرطة لا تحضر الأطفال لقبول الواقع وتحمل المعاناة النفسية والجسدية، وفي الغالب، تسود الفوضى حياة هذا النوع من الأطفال عند بلوغهم مرحلة المراهقة، ويصبحون أكثر عرضة لحالات الاكتئاب والاضطرابات النفسية.

واعتبروا أن شدة خوف الآباء والأمهات على الأبناء تقتل أحلامهم وطموحاتهم وتحبطهم، كما أن ذلك كفيل بخلق مشاكل نفسية وجسدية لهم ويصيب شخصياتهم بالهشاشة والحساسية المفرطة.

وقال الخبراء إن ما يعتبره بعض الآباء حماية وخوفا على مصلحة الأبناء، بدافع الحب هو في الحقيقة شكل من أشكال العنف، لأن المبالغة في الخوف تؤدي إلى انتكاسة في شخصية الابن يصعب معها كسر الحاجز النفسي الذي بناه الوالدان.

21