رسم الأيقونات يساهم في نشر جماليات الفن القبطي الشرقي

الجداريات الفرعونية ألهمت المسيحي آرميا القشطة أسلوبا خاصا لرسم الأيقونات لا ينتمي لأي من المدارس الفنية العالمية، لذلك اختارت الكنيسة القبطية المسيحية المصرية هذا الفنان لنقل تجربته الفريدة في رسم الأيقونات للخارج لتعزز من تواجدها على الساحة الدينية العالمية.
القاهرة – دفع أسلوب الفنان المسيحي، آرميا القشطة، المميز الكنيسة المصرية للاعتماد عليه في نشر جماليات الفن القبطي الشرقي بالكنائس التابعة لها وإعادة تزيينها بالأيقونات المحلية وجداريات لا تخلو من تأثر مباشر بالفن الفرعوني.
وبدأ آرميا المنحدر من مدينة سمالوط في محافظة المنيا (جنوب مصر)، في الاستعداد لبدء رحلة من أجل رسم الأيقونات المسيحية بكنيستين في اليابان وروسيا تابعتين للكنيسة المصرية.
وكانت الكنيسة المصرية تبنّت، قبل خمسة أعوام، خطة للتوسع الخارجي، واشترت إحدى الكنائس بموسكو، العام الماضي، وحولتها إلى فرع لها يخدم الأقباط الأرثوذكس المقيمين هناك، ودشنت فرعا لها باليابان يحمل اسم “السيدة العذراء والقديس مارمرقس” بمدينة كويتو للغرض ذاته.
ويسعى تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية بمصر، إلى تحويل الكنائس الخارجية التابعة له في 63 دولة والتي تقدم في المقام الأول خدمات روحية للمغتربين المصريين، إلى أيقونات فنية تنشر معالم الفن القبطي في التصوير الجداري.
وعززت تجارب آرميا العديدة فرصته في تولي مهمة نشر الأيقونات القبطية، إذ سبق له المشاركة بعدة أعمال في فرنسا، مثل رسم كاتدرائية العذراء والملاك روفائيل بمنطقة دراڤي، والمشاركة في معارض مدينة ديجون الفرنسية، وأتيليه بانسارد في باريس، ومعرض بكنيسة السيدة العذراء قرب نورماندي.
وقال آرميا، لـ”العرب”، إنه يتبنى في تكويناته الفنية وأيقوناته مفهوم الفن القبطي الحديث الذي يربط الكنيسة بالتراث الفرعوني، من تشريح وألوان مريحة للعين تصل بالنفس والراحة إلى الاستقرار فور مشاهدتها.
ويملك الفنان الشاب البالغ من العمر 39 عاما، أسلوبا خاصا لرسم الأيقونات القبطية وجذب الأنظار، حيث لفت الانتباه إليه، مؤخرا، عبر رسم “حضن الأب” بالصحن الرئيسي بالكنيسة المرقسية في العباسية بوسط القاهرة خلال الاحتفال بمرور 50 عاما على إنشائها، وجسد المسيح البنتكراتور “الحاكم على الجميع” الجالس على العرش وحوله أربعة وعشرون قسيسا وعشرات من الملائكة، والسيدة العذراء والقديسات والشهيدات والأطفال بطبيعة حداثية.
الأيقونات تحمل أهمية كبيرة في الفن القبطي، وتعتبر استحضارا لفكرة مقدسة في شكل رسم أو منظر، ما يجعلها مسجلة بلغة بسيطة
ويقصد بالأيقونة استلهام صور دينية مرتبطة بالكتاب المقدس أو تاريخ الكنيسة وتشمل في الغالب المسيح والسيدة العذراء والرسل والقديسين والشهداء والملائكة، وتعتمد على الرسم الأصلي مع إظهار الصفات التي يتمتع بها من الهيبة والقداسة والعفة والشجاعة والورع.
وأضاف آرميا أن قصة تعلقه بالأيقونات بدأت مع تلقيه كتابا باللغة الفرنسية هدية ومن خلاله تعرف على جماليات رسم الأيقونة، وغير أهدافه من امتهان الفن ليتعدى توصيفه كمهنة، وبدأ بعدها في متابعة الفنانين الكبار أثناء العمل ومزاولة رسم الأيقونات الصغيرة لمدة 16 ساعة يوميا، وصولا إلى مرحلة الاحتراف الحالية.
يحافظ الفن القبطي على معالم مغايرة في تصوير القديسين بإحاطة رؤوسهم بهالات من النور وألوان مشرقة، عكس الفن البيزنطي الذي يجسدهم دائما بتيجان على الرؤوس، كما امتاز بالبعد عن محاكاة الطبيعة وتقليدها، فالرسوم القبطية تتسم بالرمزية والإفراط في استخدام المثلثات والمربعات والخطوط المتقاطعة.
وتحمل الأيقونات أهمية كبيرة في الفن القبطي، وتعتبر استحضارا لفكرة مقدسة في شكل رسم أو منظر، ما يجعلها مرتبطة بعظات وكتب مرسومة ومسجلة بلغة بسيطة تتغلب على عائق اختلاف اللغات والثقافات.
ويفضل آرميا في رسمه الجمع بين عشرات الأيقونات الصغيرة مع مراعاة وضعية العمل بالنسبة للجالسين، بما يمنح الكاهن القدرة على رفع رأسه أثناء الصلاة دون أن تفارق عيناه المسيح، كما يتفنن في معالجة “الشرقيات” والزخارف القبطية وتغيير الألوان، وتصوير حداثي للملائكة وهم يحملون قيثارات وأبواقا.
الشرقيات عبارة عن صور تملأ الانحناءات الهندسية في الجهة الشرقية بهيكل الكنيسة، وتتضمن معالجة الحوامل الخشبية للأعمدة معا ثم تغطيتها ببطانة من الجص لمنع تشققها وتغطيتها برسومات تجعلها لوحات فنية.
ينهمك الفنان الشاب حاليا في رسم جداريات صحن كاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية في القاهرة، وتمتد على مسافة خمسة آلاف متر بين القبة الرئيسية وأنصاف القباب، وتعتبر من أكبر الجداريات بالعالم.
وأكد آرميا لـ”العرب”، أن الموهبة لم تكن وحدها سبب تميزه، لكن دراسته على يد فنانين كبار بمعهد الدراسات القبطية وتبني أسلوب التعلم الدائم بمتابعة القديم والجديد في الفنون، وزواجه من فنانة مبدعة أيضا كان لها تأثير عليه وساعدته على تخطي الصعوبات التي قابلها في مسيرته الفنية.
يحمل معهد الدراسات القبطية تأثيرا فنيا على غالبية الملتحقين به، ويتضمن دراسة عقائدية متصلة بالمضمون اللاهوتي في الفن القبطي والقيم التشكيلية المتوارثة من التراث المصري القديم، مع الدراسات المعتادة في الفن التشكيلي الخاصة بالكتلة والفراغ والخط واللون والأبعاد مثل الكليات الفنية التقليدية.
ويشير آرميا إلى أن الفضل في تجربته يرجع إلى أستاذه إيزاك فانوس، مؤسس الفن القبطي الحديث الذي تتلمذ على يده وغرس فيه لاهوت الجمال والنور النابع من الأيقونة وتظهره لكل من يراها، وشجعه أيضا على التطوع في مساعدة بعض الفنانين في أعمال الكنائس مثل الفنان أشرف فايق الذي أصبح مساعدا له.
ويحمل آرميا مسيرة فنية تمتد لنحو 18 عاما، رسم خلالها 60 كنيسة، ومن أشهر الأيقونات القبطية التي رسمها أرميا أيقونة “سفر الرؤيا” في كنيسة المعادي التي تركت في حياته بصمة، فعبرها فاز بالمركز الأول في مسابقة الفن القبطي التي تنظمها الكاتدرائية بالقاهرة، وشجعته على إعداد رسالة ماجستير حولها لأنها تتماشى مع هدف الأيقونات كوسيلة لعبور الزمان والمكان ونقل الحقائق اللاهوتية إلى الرجل البسيط.
تتضمن الأيقونات رموزا شبه ثابتة في اللوحة القبطية مثل العيون الدائرية التي ترمز إلى الحياة الأبدية، والوجوه المبتسمة دائما كرمزية للسعادة في الآخرة، والاعتماد على شكل دائري في تجسيد الشخصيات دون خطوط مستقيمة.
تطورت الأيقونات القبطية باستمرار بداية من مرحلة الرموز وتجسيد المسيح في شكل الراعي الصالح ثم “الكتاب المقدس” واستخدمت فيها أيقونات لأهداف تعليمية في المقام الأول، حتى جاءت مرحلة “أيقونات الآخرة” التي تعبر عن جوانب فلسفية وتعلقت بقصص أنبياء العهد القديم والملائكة، وأشهرها أيقونة القديس مار جرجس التي يمتطي فيها جواده الأبيض ويصارع التنين.
لا ينتمي هذا الرسم لأي مدارس فنية عالمية، فهو يحمل طبيعة خاصة مرتبطة بالعقيدة القبطية المسيحية، واستلهم الكثير من الجداريات الفرعونية في طريقة التصوير بألوان الأكاسيد على الحوائط المغطاة بطبقة من الجص، وتسعى الكنيسة لنقله للخارج كقوة ناعمة تعزز من تواجدها على الساحة الدينية العالمية.
ويتولى آرميا القشطة حاليا نقل تجربته الفريدة في رسم الأيقونات إلى المهتمين عبر الدورات التدريبية بمقر الأسقفيات في صعيد مصر، والمركز الثقافي القبطي بالقاهرة، فالأيقونة بالنسبة له ليست مجرد لوحة فنية، لكن دستورا خاصا للرسم يسعى لنشر بنوده في الداخل والخارج.