البوكتيوب يُعيد رسم خارطة الثقافة التقليدية

القاهرة – غيّرت عواصف التكنولوجيا الحديثة هندسة المجتمع الثقافي. كل تطور في الوسائط والاتصالات صاحبه تغيّر في الكتابة، وانعكس بدوره على درجة تلقّي الجمهور لمختلف الكتابات، لتتبدل أنماط وسمات حاكمة لسوق الكتاب، مثّلت على مدى عقود طويلة ماضية قواعد صارمة يصعب الفكاك منها، سواء للكاتب أو القارئ أو الناقد.
كان لميلاد ظاهرة البوكتيوب عام 2009 آثاره الإيجابية على الكتاب في العالم، إذ شجع الملايين على القراءة بعمق، وإبداء الآراء في ما يقرؤونه، والتصريح بالاتفاق والاختلاف مع الكاتب، وكشف تصوّرات الجمهور لما يفضّلونه من طرق وأساليب وتقنيات فنية في الأعمال الإبداعية المتنوّعة. كما مثّلت الظاهرة مقياسا جديدا لمدى نجاح كُتب معيّنة، بعيدا عن مغالطات بعض دور النشر الدعائية.
البوكتيوب يمكن تعريفه بأنه، بث محتوى مصور على تطبيق الـ”يوتيوب”، يتضمّن آراء وتحليلات لكتب وروايات ما، يتابعها الجمهور عبر هواتفهم وكمبيوتراتهم الشخصية من أي مكان، وفي أي وقت.
ضخ دماء في الثقافة
حققت الظاهرة نجاحا لافتا في دول العالم، فلا شك أنها ساهمت عربيا في تجديد دماء الوسط الثقافي، وجذب أجيال جديدة متعطشة للقراءة، لكنها تبحث عن مرشد لتوجيهها، في ظل سوق كتب مزدحم يصعب على القارئ المبتدئ التمييز فيه بين الصالح والطالح.
ساعدت الظاهرة التي انتشرت في دول عربية كثيرة على الترويج لكثير من كتابات الشباب، وتأسيس مدرسة نقد شعبية للأدب توازي بعض صفحات الثقافة في كبرى الصحف، وهي مدرسة انطباعية وغير علمية، لكنها تمثّل بشكل ما انطباعات قرّاء لا يمكن تجاهلهم من قبل المؤلفين.
تتنوع مواد البوكتيوب بين قراءات لكتب معيّنة، وإرشاد وتوضيح لموضوعات عامة مثل أدب الرعب والأدب الصوفي وكتابات النساء، فضلا عن توجيه إرشادي ونصائح من أمثلة كيف تختار كتابا مشوّقا؟ أو ماذا تقرأ في الفلسفة؟ أو دليلك لمعرض الكتاب.
تطلق قنوات البوكتيوب في بعض الأحيان مبادرات لتحدي القراءة بهدف التشجيع على قراءة عدد معيّن من الكتب خلال فترة زمنية بعينها، ما يساعد على نموّ فكرة القراءة.
نسبة عدد القراء إلى مجمل المجتمعات العربية منخفضة بشكل محزن، و(البوكتيوب) ينهض على مخاطبة جمهور منشغل بعالم القراءة والكتب
جهاد عادل، طالبة بكلية الطب، تقطن في القاهرة، تهوى القراءة وتعتبرها أجمل هواية تؤثر في شخصية الإنسان وترتقي بها، قالت لـ”العرب” إن سوق الكتب كبير، ومزدحم، ويحتاج أدلة يثق فيها القراء الشباب للإشارة إلى الأعمال الجيدة، لأن أغلفة الكثير من الكتب وعناوينها قد تبدو خادعة.
ولفتت إلى أنّ متابعة قنوات الكتب (البوكتيوب) تفتح المجال للتعرّف على جديد النشر، وإن كان الكتاب يستحق القراءة أم لا، لأن هناك أسماء لامعة تقدّم أعمالا ضعيفة اعتمادا على شهرتها، وهي تتصوّر أن كل ما تصدره سيحقق النجاح، مثلما حدث مع الأعمال السابقة.
قبل سنوات، كان الشباب الصغار يعتمدون على موقع “غود ريدز” الإنكليزي لقراءة آراء قراء ما في بعض الأعمال لتحديد ما كانت تلك الأعمال تستحق القراءة أم لا.
وفطنت كبرى دور النشر للأمر، وقام بعضها بتدشين المئات من الحسابات الوهمية على الشبكة للإشادة بكتب بعينها كنوع من دعمها أو الترويج لها.
التطور في البوكتيوب يتجاوز ذلك، لأن كل بوكتيوبير (قارئ كتب) معروف لجمهوره، ويظهر بشخصه ويتحدث مباشرة إلى الجمهور ولا يمكن أن تتحايل دور النشر أو كبار الكتاب على مجتمع البوكتيوب بحسابات كاذبة.
يمكن القول، إن سوء الأوضاع الاقتصادية في بعض الدول العربية ساهم في نمو الظاهرة، إذ ارتفع سعر الكتاب مقارنة بدخل القارئ، ما جعله حريصا على عدم التضحية بأمواله لشراء كتاب دون الاستماع إلى آراء قرّاء سابقين له، وهذا ما يفسّر انتشار ظاهرة البوكتيوب بشكل أكبر في كلّ من مصر والمغرب.
نجوم الثقافة الجُدد
مكاسب أخرى لنمو البوكتيوب عربيّا، تتمثّل في ميلاد نجوم جُدد في الوسط الثقافي لم تكلّفهم صحيفة ما أو تعيّنهم دار نشر، وتحوّلت القراءة والتقييم والنقد لديهم إلى مهنة تشغلهم وتستغرق جُلّ أوقاتهم.
ندى الشبراوي، واحدة من اليوتوبير المشاهير في مصر، تُدير قناة “دودة كتب”، بدأت قناتها على يوتيوب منذ حوالي عامين، ولديها الآن أكثر من سبعين ألف مشترك.
قالت الشبراوي لـ”العرب”، إن الدافع للقناة قبل كل شيء هو زيادة معارف الناس بالكتب، وصناعة علاقة تواصل دائم بينهم وبين الكتاب.
وأشارت إلى أن هناك جمهورا كبيرا في المجتمع، خاصة بين شباب متعطش للقراءة، لكنه ينتظر تشجيعا ومساعدة، ودللت على نجاح الظاهرة بالارتفاع الكبير في أعداد متابعي قنوات البوكتيوب في العالم، والتفات الكثير من كبار الكتّاب ودور النشر والمجتمع الثقافي للظاهرة.
إذا كان البعض يحاول تشويه العاملين في المجال بالقول، إنهم يحققون أرباحا دون مجهود حقيقي سوى الكلام، فإن أصحاب القنوات أنفسهم يردّون بأن نجاح البوكتيوبير يتطلّب ذكاء وخبرة ولباقة وحضورا وخفّة ظل، قد تغيب عن بعض المثقفين أو المهتمين بالكتب.
كما أن نموّ الجمهور مقترن باقتناع حقيقي لدى شباب المثقفين بموضوعية البوكتيوبير، بمعنى أنه غير موجه لانتقاد عمل ما، أو الإشادة بآخر وإنما هو عرض صادق لكتاب مهم أو مفيد، قد لا يعرف البوكتيوبر مؤلفه على المستوى الشخصي.
أكدت ندى الشبراوي، أنها تتلقى الكتب من دور النشر، مثلها مثل الصحافيين المعنيين بالثقافة، لكنها لا تعمل في أيّ من تلك الدور، ولا تتقاضى أموالا منها، ولا تعتقد أن هناك بوكتيوبرا معروفا يتقاضى رواتب من دار بعينها.
ورأت أن مثل هذا الأمر يمثّل خط النهاية لمصداقية البوكتيوبر، لأن الجمهور واع ويختلف عن أيّ جمهور لقنوات اليوتيوب الأخرى، وهو أكثر فهما ومعرفة من أن يخضع لدعاية أو يتعرّض لخداع.
اهتمام المبدعين
جذب البوكتيوب أنظار بعض الروائيين والكتّاب واهتموا بالظاهرة، لأنها ساهمت في اتساع جماهيرهم من القرّاء.
أوضح الروائي المصري، أشرف العشماوي، لـ”العرب”، أن الأمر لم يعُد ظاهرة وإنما صار واقعا مفيدا للغاية، حيث يتعرف من خلاله القارئ على ملامح الرواية، موضوعها، فكرتها الأساسية، كيفية البناء، الشخصيات الرئيسية، مع ملخص غير كاشف عن أحداث الرواية.
وفي تصوره، فإن البوكتيوب أشبه بـ”الإعلان التشويقي المهم، والذي سيكون بمثابة دعوة للقراء إلى قراءة عمل ما، قد لا يكون معروفا”.
ويتابع العشماوي، البوكتيوب بانتظام، وهناك نماذج يراها جيدة وموضوعية، مثل “الروائي” أو “دودة كتب”، ويعتقد أن هذه القنوات ساهمت في زيادة مبيعات الكتاب العربي في السنوات الأخيرة.
ولاحظ العشماوي أن معظم البوكتيوبر، يركزون في حلقاتهم على الروايات والأعمال الأدبية، ويتمنى أن تتسع مجالات القراءة خلال الفترة القادمة لتشمل مختلف الكتب النوعية، مثل كتب التاريخ والشعر والكتابات الفكرية.
وهناك تحفظات على هذه الظاهرة، منها أن البوكتيوبر في كثير من الأحيان يقدّم انطباعاته الشخصية، سلبية أو إيجابية، وقد ترتبط بمحبته أو عدم محبته.
سوء الأوضاع الاقتصادية في بعض الدول العربية ساهم في نمو الظاهرة، إذ ارتفع سعر الكتاب مقارنة بدخل القارئ، ما جعله حريصا على عدم التضحية بأمواله لشراء كتاب دون معرفة آراء قرّاء سابقين له
وقال العشماوي، إن المبالغة في الإعجاب أو الذم من جانب اليوتيوبر في بعض الأحيان يؤدي إلى نتيجة عكسية دائما.
وقد لا يعجب الوجه الآخر للبوكتيوب بعض الأدباء والروائيين، وهناك مَن لم يسمع به فعلا أو يعرف نجومه، مثلما ذكر الروائي المصري إبراهيم عبدالمجيد لـ”العرب” بأنه “لم يتابع أيا من البوكتيوبرز ولم يسمع بهم”.
في تصوّر الروائي السوداني حامد الناظر فإن القراءات المتداولة لبعض الروايات المنشورة سطحية وخاطفة، ولا تقدّم طرحا عميقا يرتقي لمستوى النقد.
ويلعب ذوق القارئ دورا كبيرا في ذلك، بمعنى أن هناك من يحب روايات السيرة، وهناك من يرفضها، ويصبح الأمر مرتبط بتذوق البوكتيوبر للون معيّن من الأدب.
أشار الناظر، الذي وصلت روايتيه “نبوءة السقا” و”الطاووس الأسود” إلى القائمة الطويلة للبوكر العربية عامي 2016 و2018، لـ”العرب”، إنه اطلع على بعض “ريفيويهات الفيديو الخاصة بكثير من الروايات الحديثة ولم تعجبه”.
وتابع قائلا “الخطير في الأمر أن بعض مقدمي الفيديوهات يستهدفون الربح بفيديوهاتهم فيلجؤون إلى الإثارة أكثر من القراءة الموضوعية”.
وثمة أدباء يقرؤون الظاهرة قراءة مغايرة تدخل في فكرة تسليع الأدب أو خضوعه لثورة النمط الاستهلاكي كأحد روافد العولمة.
تقليد أم محاكاة
أوضح الروائي ناصر عراق، لـ”العرب”، أن الظاهرة توضّح بجلاء طبيعة العلاقة بين الغرب والعالم العربي، وهي علاقة قائمة على التقليد والمحاكاة، فهم يبتكرون ويخترعون، ونحن نقلّد ونحاكي.
وأشار إلى أن الظاهرة التي انطلقت عام 2009 في أميركا وأوروبا، لم تصل عالمنا العربي إلا بعد ذلك بسنوات، حيث بات من الطبيعي أن يحاكي العرب ما يجري في الغرب، في مجال استهلاك التكنولوجيا وليس اختراعها، وهو أمر مفهوم بسبب الأوضاع المتخلفة في المجالات كافة، ومع ذلك فإنه يصحّ القول إننا “لم نحقق النجاحات نفسها التي وصل إليها البوكتيوب في الغرب”.
وفسّر عراق ذلك بأن، نسبة عدد القراء إلى مجمل المجتمعات العربية منخفضة بشكل محزن، و(البوكتيوب) ينهض على مخاطبة جمهور منشغل بعالم القراءة والكتب، وهنا فإن أحد مقومات نجاحه غير متاحة لدينا.
وأضاف “الأمل منعقد رغم كل شيء على أن يسهم البوكتيوب في استفزاز مشاعر الناس وجرّهم نحو عالم القراءة، خاصة إذا كان مقدّم الفيديو يمتلك مهارات مميّزة في عرض الكتب ونقدها تدفع المشاهد إلى السعي إلى اقتنائها والتعرّف إليها بشكل كامل سواء في نسخ ورقية أو إلكترونية”. وفي تصوّر عراق، فإن البوكتيوب العربي في حاجة إلى تطوير أكثر حتى يستطيع أن يحقق الهدف المنشود، ويصبح قادرا على جلب المزيد من المشاهدين، وبالتالي القراء.
ولا تزال فاعلية الظاهرة محلّ شك من بعض خبراء التكنولوجيا الحديثة، الذين يرون أن تفاعل المجتمعات العربية مع قضايا الثقافة والكتب أقلّ من الحد الأدنى للتأثير في المجتمع.
وقالت دعاء سليط، خبيرة السوشيال ميديا، لـ”العرب”، إن الظاهرة ليست مؤثرة بشكل كبير كما يعتقد البعض، وهذا يرتبط بالمجتمع نفسه الذي ينفر من الثقافة المقروءة.
وأوضحت أن أكبر قناة بوكتيوب في العالم العربي لا يصل عدد المشتركين فيها إلى مليون مشترك، بينما هناك قنوات للطهي والمواقف المضحكة يتابعها الملايين كل يوم.
خارج نطاق النقد
أزعجت الظاهرة التي اعتبرها البعض نموذجا من نماذج النقد الشعبي للأدب البعض من النقاد الذين رأوا فيها “وسيطا جديدا ترويجيا أو إرشاديا غير قائم على أيّ منهج علمي”.
وأشار هؤلاء إلى أنّ هناك فرقا بين النقد والانطباع، وفي النهاية فإنه لا يمكن تسمية أي ظاهرة بغير مسماها الحقيقي، مهما أحسنّا بها الظن.
وقال يسري عبدالله أستاذ النقد الأدبي بجامعة حلوان بالقاهرة، لـ”العرب”، إن كلّ جيل يتأثر بآليات زمانه، وهذا منطقي لكنّ هناك ضميرا للمجتمع الثقافي لا يمكن مخالفته بضغوط من وسائط وآليات التكنولوجيا.
ويعني ذلك أن كون بعض الكتاب “بيست سيلر” لا يعني بالضرورة أنهم أدباء جيّدون، وبنفس المعنى فإن استحسان بوكتيوبير بعينه لكاتب أو تحمسه لكتاب ما، لا يعني بالضرورة أن هذا الكتاب جيّد.
وأضاف عبدالله، “أن الجماعة الثقافية مثل الكتلة الحرجة تتأثر بكل جديد وحديث في العالم، لكنها لا تتخلّى عن قيمها ومبادئها، لذا يسقط الكثير من المشاهير ويتوارون نتيجة انصراف الجمهور الذي لم يتابعهم عن إيمان حقيقي بتفوقهم الأدبي، وإنما نتيجة عارض قد يكون وسيطا جديدا، مثل السوشيال ميديا وروافدها من غود ريدز، أو بوكتيوب أو غيرها”.
أما على مستوى السوق، فهناك اهتمام واضح بالظاهرة لكنه يقتصر على فكرة التسويق والدعوة الإيجابية.
وأكد شريف الليثي، مدير دار “تويا للنشر”، أن معظم ناشري الروايات يرسلون إصداراتهم الجديدة لمشاهير البوكتيوب، لكن الأمر يخضع في بعض الأحيان للعلاقات الشخصية.
وتوقع في تصريح لـ”العرب”، أن تقوم بعض دور النشر بإنشاء قنوات بوكتيوب خاصة بها، بهدف الدعاية لأعمالها، لكن الخطير استخدام تلك القنوات في الإساءة لإصدارات دور نشر منافسة.