الرواية البوليسية: متغيراتها ومستجداتها

النظرة الدونية إلى الرواية البوليسية ورثها الوسط الثقافي العربي عن مصدرها الغربي لكن الأمر يتغير الآن مع التغيرات الاجتماعية.
السبت 2019/08/03
كتابة رواية بوليسية عربية لم تتجاوز محاولات هامشية

ليست هي المرة الأولى التي أكتب فيها عن الرواية البوليسية، وأذكر أنني في آخر ما كتبت عن هذا الموضوع، مقالة بعنوان “عن الرواية البوليسية” ومن ثم ضممتها إلى ما تضمن كتابي “تطفل على السرد” من موضوعات وقضايا تتعلق بالسرد، وقد طرحت في ختام المقالة المذكورة سؤالا، يمكن إجماله بالآتي: هل الترفع الثقافي والنقدي عن الرواية البوليسية في الثقافة العربية المعاصرة، وهو موقف موروث أو منقول عن الثقافة الغربية، يتطلب إعادة نظر، في ضوء المستجدات التي عرفتها الرواية البوليسية في العقود الأخيرة، سواء على صعيد الكتابة أم على صعيد التلقي والنشر والتوزيع والقراءات النقدية، وأن تشمل إعادة النظر هذه، قراءات جديدة ومختلفة لكتاب قدامى، مثل أجاثا كريستي وآرثر كونان دويل وأيان فيلمنج وغيرهم؟

لقد نشأنا في محيط ثقافي ينظر إلى الرواية البوليسية نظرة دونية، لذا كان النقاد وما زالوا، في حالة عزوف عن تناولها والحديث عنها ورصد تحولاتها وكشف مكوناتها، وكان كثير من المثقفين يحيطون قراءاتهم منها بالكتمان، إلا في حالات نادرة واستثنائية، وقد سبق لي أن أشرت إلى الشاعر العراقي الراحل حسين مردان، كحالة يمكن أن أعدها استثنائية، حيث كان يعلن عن إعجابه ببعض ما يقرأ منها، واقتصر هذا الإعجاب على أحاديثه مع المقربين من أصدقائه، وبحدود ما اطلعت عليه، لم أر الإفصاح عن هذا الإعجاب في كتاباته.

كما سمعت من أكثر من صديق ممن عرفوا الروائي المغربي محمد شكري قبل أن يتعرف على الكاتب الأميركي بول بولز، ويدخل مخاض الأدب والكتابة، أنه كان مولعا بقراءة الحكايات الشعبية والروايات البوليسية، غير أنني لم أسمع منه ما يؤكد هذا الذي سمعته، وأتوقع أن عزوفه عن هذا الحديث، كان يقصد منه كما فعل دائما، رسم شخصيته كما يرى لا كما هي في الحقيقة.

إن الموقف الذي أشرت إليه، هو السبب الأهم في ما أرى، في عدم ظهور رواية بوليسية في الأدب العربي المعاصر، تضاف إلى هذا السبب، أسباب أخرى، يتقدمها العامل الاجتماعي، لذا فإن كتابة رواية بوليسية عربية في العقود الماضية لم تتجاوز محاولات هامشية، ظلت في حدود مسلسلات صحافية.

إن هذا الموقف من الرواية البوليسية في حياتنا الثقافية، رغم أنها واسعة التوزيع واستقطاب القراء، جعل الذين حاولوا التقليل من أهمية تحفة ديستوفسكي “الجريمة والعقاب” يصفونها بأنها رواية بوليسية، وهي وإن اقتربت من هذا العالم الروائي، لكن هذا الاقتراب لم يبعدها عن موقعها المتقدم والمتميز بين أعمال ديستوفسكي الروائية:

إن هذه النظرة الدونية إلى الرواية البوليسية، وكما أشرت إلى ذلك من قبل، ورثها الوسط الثقافي العربي عن مصدرها الغربي، حيث كان الغربيون ينظرون إليها على أنها من الأدب الشعبي، وكانت مؤسسات النشر الكبرى تعزف عن تبنيها ونشرها، كما أن توزيعها لم يتجاوز الأكشاك في المناطق الشعبية وفي المطارات ومحطات السكك الحديد أو مراكز النقل البري.

غير أن هذا الموقف بدأ يتغير منذ النصف الثاني من القرن العشرين وصارت دور نشر كبرى تختص بسلاسل منها، وعلى سبيل المثال صار معروفا أن السلسلة السوداء التي تنشرها دار غاليمار هي الأكثر توزيعا بين كل سلاسلها.

لقد قرأت أخيرا ما كتبته القاصة الأردنية إنصاف قلعجي وهي تشير إلى هذا المتغير حيث تقول “لقد ازداد الاهتمام بالرواية البوليسية في الوقت الراهن كما في روايات دان براون وبخاصة ‘شفرة دافنشي’ وريمون شاندلر في ‘النوم الكبير’ وفي روايات بول أوستر ‘رجل في الظلام’ و’ليلة التنبؤ’ و’رحلات في حجرة الكتابة’ وغيرها”.

لقد قرأت حوارا مع الروائي أمبرتو إيكو يقول فيه “لا يمكنني النوم إن لم أقرأ رواية بوليسية في المساء”، ولقد سبق لي أن كتبت متسائلا “إنْ كان نجيب محفوظ بكل ما توفر عليه من حساسية فنية وقدرة على رصد متغيرات الرواية في العالم، قد أدرك هذا المتغير من الرواية البوليسية، فما فاته أن يقترب منها، حين كتب روايته ‘اللص والكلاب’؟”.

ومن دلائل هذا التحول هو دخول روايات سيمنيون سلسلة الأبيلاد الشهيرة إلى جانب أهم النتاج الروائي الكلاسيكي العالمي، ذلك أن أعماله تجمع بين الأصول الشعبية للرواية البوليسية ومستجدات الرواية المعاصرة.

إن روائيين مثل فريد فايمان وماري كلارك وباتريسياكورونيل ومانويل مونتالبان، وهم من كتاب الرواية البوليسية، إلا أنهم يعدون الآن في مقدمة كتاب الرواية في بلدانهم ويتقدمون على أقرانهم في أرقام توزيع رواياتهم، وليس من قبيل المصادفة أن تكون روايات حديثة نالت من الشهرة مما جعلها في مقدمة الإنتاج العالمي شهرة وتوزيعا، قد كتبت بتقنيات الرواية البوليسية في لغتها وفي ابتكار الشخصيات المثيرة وتحريكها في أجواء غامضة ومتوترة، حيث الحبكات الملغزة في أحداثها، مثل رواية “اسم الوردة” لإيكو و”شفرة دافنشي” لدان براون وإلى حد ما رواية “كافكا على الشاطئ” للروائي الياباني هاروكيموراكامي، وإن رواية “اللبن الحلو والمر” للصومالي نور الدين فرح، التي حققت حضورا وانتشارا كبيرين، قرأت فيها الباحثة ماري تريز عبدالمسيح، ما يشبه الرواية البوليسية عبر عملية تقصي الحقائق التي يقوم بها “لوبان” والتي أدت إلى وفاة أخيه التوأم “سوبان”.

إن موضوع المتغيرات والمستجدات في الرواية البوليسية، صار كثير الحضور في كتابات النقاد والمبدعين، وما أذكره أن السؤال الذي طرحته في مقالي الذي أشرت إليه، وأعدته في مفتتح مقالتي هذه، انفتح على حوارات كثيرة أذكر منها ما قاله الروائي العراقي عواد علي: “إن متغيرات الرواية البوليسية مرتبطة بالمتغيرات التي طرأت على الحياة، فعصرنا ليس عصر أجاثا كريستي وإيان فيلمنج، حيث اتسمت رواياتهما بالغموض ومطاردة المجرمين والتحقيقات الممتعة، بحثا عن ألغاز الجرائم، فالروايات الحديثة ذات المنحى البوليسي، اتخذت أكثر من مسار، كما في روايات ستيفن كنغ ودان براون”.

أما القاصة السورية فاطمة نداف، فقد كتبت إلي، تناقش بعض ما جاء في مقالتي، مركزة على غياب الرواية البوليسية في أدبنا المعاصر، معللة ذلك “بأن المدينة العربية لم تكن مؤهلة لإنتاج واقع بوليسي، لهذا أخذت حيزا ضيقا، وبخاصة في ما يتعلق بالوضع الاجتماعي وتوظيفه في الحياة المركبة وما تفرزه من حالات، ترقى إلى الجريمة”.

13