الباجي قائد السبسي: رجل الدولة الديمقراطي

وجدت تونس في الحركة السياسية التي أسسها الباجي قائد السبسي تحت اسم “نداء تونس” الكفة الموازية والمُعادل الموضوعيّ والكتلة التاريخية لضمان بقاء الدولة وللحفاظ على الديمقراطية الوليدة.
الجمعة 2019/07/26
رجل الديمقراطية إبان عهد بناء الدولة

دون سقوط في السرديات البكائيّة التي يدخل فيها البعض بمجرّد إعلان الوفاة حيث يصير الفقيد قرين التنزيه والتقديس، وبمنأى أيضا عن جرد حسابات الأدلجة والدمغجة التي سرعان ما يلتجأ إليها أعداء السياسة، فتفقد بذلك الفاجعة جانبها الإنساني ويفقد صاحب القول أبعاده الأخلاقية أيضا، فمن الواجب، أخلاقيا وعقلانيا، استقراء مسيرة ومسار الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي بمنتهى الأمانة التي يفرضها التاريخ على كاتبه والواقع على رواته.

في واحدة من أفضل مقالاته السياسية، عند وفاة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات (أبوعمّار)، كتب الصحافي الراحل محمد حسنين هيكل، ما مفاده أنّ التفسير الإعلامي لمقولة “اذكروا موتاكم بخير”، كامن في التقييم الموضوعي للسيرة الذاتية للفاعل السياسي، فلا يتحول الموت إلى صكوك غفران لتجاوز الأحداث التاريخية، ولا يستحيل الغياب أيضا إلى مجال للمناكفة والتشفي أو لتصفية حسابات الأحياء مع الأموات.

الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، شيخ السياسة والدولة في تونس، عرف مرحلة مُقاومة الاستعمار وعايش دولة الاستقلال وكان ضمن الفريق الوزاري الأوّل للزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، ولئن توارى عن الأنظار نسبيا عن منظومة الحُكم في عهد الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، فإنّ ثورة 14 يناير 2011 دفعته إلى قلب دوائر الحُكم في القصبة وقرطاج.

ودون الدخول في التفاصيل والحيثيات التي قد تحول دون استقراء الخطوط العريضة لسيرة الرجل، إلا أنّ ترجمته بالإمكان تلخيصها بأنّ الرئيس قائد السبسي كان رجل الديمقراطية إبان عهد بناء الدولة، وكان أيضا رجل الدولة إبان مرحلة بناء الديمقراطية وتكريسها في تونس.

فالرجل تعرّض في مرحلة سبعينات القرن الماضي، وفي خضم الحراك والعراك الديمقراطيين، إلى تجميد من قبل الحزب الاشتراكي الدستوريّ الحاكم، بعد تأييده للإصلاحات السياسية والدستورية في البلاد، الأمر الذي دفعه إلى الانضمام إلى حركة الديمقراطيين الاشتراكيين وترؤسه مجلة démocratie، ولم يعد إلى دوائر الحكم إلا في ظلّ حكم الوزير الأول الأسبق، محمد مزالي، المعروف بسعيه إلى الانفتاح السياسي والاقتصادي.

كان يُمكن للباجي قائد لسبسي أن يُكمل سنوات عمره في بيته في ضواحي رادس، هادئا مطمئنا لرحلة طويلة بين دهاليز وزارة الداخلية التونسية، وكراسي وزارة الخارجية، ومقعد رئيس مجلس النواب بداية التسعينات، ولكنّ زلزال 14 يناير 2011 أعاده إلى قلب المشهد السياسي التونسي، وإن كان بعناوين أخرى.

ولئن أجبرته مطالب دمقرطة الدولة خلال عهدي بورقيبة وبن علي على التنائي النسبيّ عنهما، فإنّ مطلبية “دولة الديمقراطية” في البيئة التونسية دفعته إلى قلب الواقع السياسي المتحرّك برمال المال والسياسة والإعلام في تونس ما بعد 14 يناير.

قاد قائد السبسي بكثير من الهدوء والتروي، مرحلة الانتقال الديمقراطي البكر، ونجح في إيصال البلاد في خريف العام 2011، إلى أول انتخابات ديمقراطية في الوطن العربي، وفي الوقت الذي كانت فيه فوهات البنادق والدبابات تجلجل في أكثر من عاصمة عربيّة، كانت تونس تضع أول لبنة في بناء الديمقراطية.

وفي الوقت الذي كانت فيه أيضا معظم العواصم العربية تتدثّر بجلباب الإخوان المسلمين، وتمر مؤسساتها من الاستبداد والفساد إلى داء الأخونة، وجدت تونس في الحركة السياسية التي أسسها الباجي قائد السبسي تحت اسم “نداء تونس” الكفة الموازية والمُعادل الموضوعيّ والكتلة التاريخية لضمان بقاء الدولة وللحفاظ على الديمقراطية الوليدة.

فلم تحتج تونس إلى “البيان رقم 1” لإنقاذ الدولة والتضحية بالديمقراطية، ولم تدخل أيضا في غياهب الفوضى تحت اسم تكلفة الانتقال، فتضحي بالدولة من أجل الديمقراطية، حيث وجد الذكاء الجمعي التونسيّ الترياق للمحافظة على الحدّ الأدنى من المُعادلة المستعصية في الوطن العربي إلى يوم الناس هذا “الديمقراطية والدولة”.

أنهى قائد السبسي حياته السياسية، رئيسا على دولة ضعيفة اقتصاديا، ومهترئة اجتماعيا، وحتّى الحزب الذي أسسه ليكون قاطرة لبناء تونس الجديدة انفرط إلى أكثر من شقّ متناحر.

كما لم تجد مقترحاته ومشاريعه الإصلاحية الكبرى على غرار مشروع المساواة في الإرث، وإصلاح النظام السياسي عبر تصييره نظاما رئاسيّا صرفا، مسارها للتطبيق. وعلى الرغم من أنّ الدولة ومؤسساتها وجدته أوقات الشدّة، إلا أنّه لم يجدها أوقات الرخاء النسبي.

لم يُخطأ قائد السبسي عندما، رفض ترشيح بقايا حزبه للانتخابات الرئاسية القادمة، قائلا بالحرف الواحد “الصحة لا تساعد”، فلكلّ استحقاق انتخابي أو سياسي سطوته وزمانه الحقيقي والافتراضي.

وبغض النظر عن أخطائه وهي أخطاء موجودة لدى كل فاعل سياسي، وبغض النظر أيضا عن قصوره في بناء حزب سياسي مهيكل ذي مؤسسات واضحة وديمقراطية داخلية، فإنّ جزءا من رحلته وسيرته الذاتية صار “إرثا سياسيا” في التعامل مع قضايا المنطقة المشتعلة، أو في قدرته على حماية الدولة وتأمين الديمقراطية من هواة السياسة وفوضويي الحكم، وما أكثرهم.

8