تونس: معضلة النظام في مواجهة اكتساح كورونا

المعضلة الأساسية التي تواجهها غالبية حكومات العالم في محاربة فايروس كورونا أن مكافحته تفرض معادلات اقتصادية واجتماعية صعبة قد تنوء بحملها القوى العُظمى، ناهيك عن الدول الفقيرة والضعيفة.
معضلة هذا الفايروس أنّ حربه لا تسمح بأنصاف الحلول، وأنّ مجابهته تقتضي حتميات ضدية وخيارات بين السيئ والأسوأ، فإمّا الخسائر المالية الكبرى وإما الفاجعة الصحية، وإما التضحية الجماعية بجزء كبير من الموارد الاقتصادية والفرص الاستثمارية، وإما السقوط في المأساة الإنسانية الكبرى حيث يصبح تعداد الموتى والجرحى بالمئات يوميا.
وإمّا التقوقع الجغرافي عبر إغلاق الحدود البرية والبحرية والجوية وإمّا خروج الكورونا عن السيطرة، وإما الاستباق بخطوات حازمة وحاسمة تُفضي إلى مقولة الدولة الحبيسة، وإما الانخراط في مكاسرة صحية لا تمتلك لها غالبية الدول العُدّة والعتاد.
ما يُحسب للدولة التونسية خلال هذه الفترة أنها لم تتردد لحظة واحدة في قبول مبدأ تحمل الفاتورة الاقتصادية والمالية الصعبة في مُقابل تأمين الحدّ الأدنى من مقومات المحافظة على حياة التونسيين.
وما يُحسب لها أيضا سُرعة استيعابها للدروس المؤلمة القادمة من إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة، حيث أفضى الاستهتار الرسمي والشعبي إلى واحدة من أفدح قصص الهلاك الجماعي في أوروبا وأميركا.
ولكن، الإشكال العميق كامن في ضياع أسبقية الخطوات المنجزة والمقررة من قبل الدولة التونسية، بفعل قلة وعي قطاعات من الشعب التونسي، وعدم تمثلها الحقيقي لخطورة الوباء ومحدودية قدرات الدولة التونسية على استيعاب أرقام كبيرة من المُصابين وأرقام أكبر من طلبات التحاليل الطبية.
فلئن كان مدار الاستباق الانتصار في معركة الزمن والتكلفة البشرية، فإنّ هذا الاستحقاق يتلاشى بفعل تكلس الوعي الضارب بأطنابه في شرائح مهمة في المجتمع، لم تدرك بعد أن الوطن سفينة واحدة إن غرقت لن ينجو أعلاها وإن نجت لن يُستثنى أسفلها من نعمة النجاة.
فُرض على تونس، حكومة وشعبا، خوض حرب ضروس ضد كورونا وهي على خط دفاعها الأخير، فالعشرية الأخيرة تم استهلاكها في مطلبيات مشطة والاقتصاد التونسي يُعاني من أزمات هيكلية كبرى تبدأ من استعصاء خلق الثروة، ولا تنتهي عند الاعتماد على مُقاربات التداين من المؤسسات النقدية الكُبرى.
وإن لم تختر تونس زمان الحرب ولا عدوها ولا جغرافية الصراع، فقد جاز لها أن تختار أداتها ورجالها ونساءها، وهُنا تكمن أهمية الوعي كحارس لبوابة البلاد والتضامن الاجتماعي كعمود خيمة المواجهة والحجر الصحي المعزز بنشر قوات الجيش كآخر حلول الطبابة المجتمعية.
تضاف لكل ما سبق، ضرورة الانتباه إلى 3 مؤشرات خطيرة في المواجهة مع كورونا. أولها فوضى الخطاب الصحي وهي فوضى ساهم فيها الإعلام المنفلت للأسف حيث يُقدم الميكروفون لكل من هب ودب للإفتاء في الوضع الطبي. ثانيها الفوضى القائمة بين السلطات المركزية والجهوية وهو ما أشار إليه الرئيس قيس سعيّد خلال خطابه الأخير، فالكثير من القرارات الجهوية تم اتخاذها دون عودة إلى السلطات المركزية، والكثير من القرارات المركزية وجدت السلطات صعوبة في إنفاذها على الدوائر الترابية المحلية.
ثالثها حالة التجاذب الواضحة بين رأسيْ السلطة في البلاد، أي التشريعية والتنفيذية، في عدة مسائل تبدأ من مسألة اتخاذ القرار في القضايا الحيوية، ولا تنتهي عند طلب الحكومة من البرلمان الإذن بالعمل بالمراسيم، وهو الأمر الذي تم رفضه من قبل عدد من النواب.
من الواضح أن الدولة التونسية تدفع اليوم فاتورة انخراطها منذ عقد من الزمان في نظام سياسي هجين لا يؤهلها لاتخاذ القرار بسلاسة، ناهيك عن تأمين المواجهة اللازمة ضد وباء كورونا، وفاتورة تلاشي الصلاحيات والسلطات بين الرئاسة والحكومة والبرلمان، إضافة إلى الانخراط الأعمى في مقولات تفكيك الدولة وفق عنوان لامركزية القرار والسلطة، والأهم من كل ذلك أننا حيال نتيجة منطقية لسياسات تهميش القطاعات الحيوية والخوصصة غير المدروسة لمجالات إستراتيجية على غرار الصحة والتعليم والسكن.
قد يكون هذا التوقيت غير مناسب لجرد حساب طويل مع الخيارات العمومية للدولة التونسية، ولكنه بالتأكيد التوقيت الأكثر مناسبة للاعتبار من الأخطاء القديمة والقائمة.
أكثر أعداء تونس اليوم وأقوى حلفاء كورونا، هي فوضى السلطات المؤسساتية والشعبية والاتصالية، ذلك أنها تضرب وتستهدف في الصميم، الرأسمال الاعتباري والرمزي في أي مكاسرة وجودية، والمتمثل في الثقة بين الحاكم والمحكوم، والمسؤولية الاجتماعية، والتفاهم والتناسق بين السلطات.