تونس: لا للفيدرالية الناعمة في إدارة الأزمة

في الوقت الذي يقوم فيه وباء كورونا بعزل الجغرافيا وتمزيق الفضاء وإعادة تعريف الحدود، لا مجال للفيدرالية الناعمة وللدولة الرخوة وللقرار المتعثر والسياسي المتلعثم.
الثلاثاء 2020/03/31
عجز النموذج السياسي القائم عن إدارة الأزمة

المستمع لخطاب رئيس الحكومة التونسية إلياس الفخفاخ في البرلمان والقارئ للبلاغات الصادرة عن رئاسة الحكومة حيال أزمة كورونا يستخلص نتيجة واحدة وهي عجز النموذج السياسي القائم حاليا عن إدارة الأزمة وضرورة الانخراط في مراجعات عميقة تمس الخيارات الكبرى.

حيث لا نكاد نسمع إعادة تأهيل مصطلحات قديمة على غرار التسخير ومركزية القرار السياسي والسيادي، ضمن خطاب الفخفاخ، وهي مصطلحات تجاوزتها كافة الحكومات المتعاقبة وبلا استثناء.

من الواضح أن محدودية قدرات الدولة التونسية على محاربة وباء كورونا، دفعت دوائر القرار إلى إعادة التفكير في الخيارات السياسية الكبرى المعتمدة، وهي خيارات تبدأ من خوصصة القطاعات الإستراتيجية في البلاد، لتمر بنموذج اللامركزية وهو أقرب إلى الفيدرالية الناعمة، لتنتهي برقمنة المجالات الأساسية.

وضعت الكورونا تونس، أمام حتميّة المراجعة الأكيدة للسياسات المسقطة من المانحين الدوليين، ولنموذج الدولة المستقيلة من الاستحقاقات الأساسية القائمة، كالصحة والتعليم والغذاء والسكن، وهي سياسات جعلت الفقراء أكثر بؤسا والمرضى أكثر عاهة والأميين أكثر جهالة.

البلاغ الذي أصدره الفخفاخ لرؤساء البلديات والمحافظين إضافة إلى طلبه من البرلمان تخويله إصدار مراسيم يصبان لا فقط في اتجاه مركزة القرار في يد السلطة التنفيذية بل في المُراجعة العميقة لطبيعة اتخاذ القرار في البلاد

غير أن الأكثر عُمقا أن الكورونا ستدفع تونس، إلى مراجعة نظامها السياسي القائم منذ أحداث يناير 2011، وهو نموذج الدولة الرخوة والسلطة المتشظية والصلاحيات المتناثرة.

اليوم تظهر بالكاشف محدودية النظام الهجين المتذبذب بين الرئاسي والبرلماني، والمتراوح بين المركزي والمحلي، وبين فاعلية السلطة والتوافق المغشوش.

منذ 2011، وهمّ الفاعلين السياسيين والتشريعيين كامن في الحيلولة دون مركزة القرار في يد أي سلطة، فتم تحويل النظام من رئاسي متسلط إلى برلماني متشظ، فحتى البرلمان الذي لابد أن يكون مبنيا على قوة الكتل البرلمانية الكبرى تم تفتيته بمقتضى قانون انتخابي هجين وتحويله إلى جزر برلمانية متناحرة.

المفارقة أن ذات العقل السياسي الذي شظى القرار بين البرلمان والرئاسة، هو ذاته الذي صنع نظام الأقاليم والحكم المحلي الموسع في البلاد، ما حول النظام السياسي التونسي إلى نظام شبه برلماني رئاسي في المركز والجهات على حد السواء.

بمعنى أن نفس الصراع القائم اليوم بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في العاصمة، يُستنسخ بين السلطة التشريعية الجهوية ممثلة في البلدية، والسلطة التنفيذية الجهوية ممثلة في المحافظين.

وكما لا يُمكن محاربة الكورونا في ظل التنازع الخفي والمعلن في الصلاحيات والسلطات بين البرلمان والسلطة التنفيذية، لا يمكن أيضا مجابهة توسع الوباء في المحافظات في سياق التجاذب القائم بين المركزي والمحلي من جهة، والمحلي التشريعي والمحلي التنفيذي من جهة ثانية.

ومن الواضح أن البلاغ الذي أصدره الفخفاخ يوم 28 مارس، لرؤساء البلديات والمحافظين، إضافة إلى طلبه من البرلمان تخويله إصدار مراسيم، يصبان لا فقط في اتجاه مركزة القرار في يد السلطة التنفيذية، بل في المُراجعة العميقة لطبيعة اتخاذ القرار في البلاد ولتأثيث السلطات المركزية والجهوية.

ولئن ربط الفخفاخ بين هذه القرارات وحالة الحرب على وباء كورونا، فإن الحقيقة معاكسة لما ذهب إليه، فما ينفع في الحرب ينفع في السلم وليس العكس، ذلك أن الطوارئ والأزمات وحدها تبين مدى نجاعة الأنظمة وفاعلية الخيارات وتختبر مستويات التنسيق بين السلطات، فيما تحجب الظروف العادية هذه الهنات والعورات التنظيمية.

الإشكال غير مرتبط بالحكم المحلي ولا بنظام القرب، بل بإسقاط قوالب جاهزة على منظومة الحكم في البلاد، وبتفتيت آليات واتخاذ القرار، وبالانتقال المُرتجل من حكم الفرد إلى حكم السلطات المتناحرة.

كورونا ستدفع تونس إلى مراجعة نظامها السياسي القائم منذ أحداث يناير 2011
كورونا ستدفع تونس إلى مراجعة نظامها السياسي القائم منذ أحداث يناير 2011

يُدرك الفخفاخ أن جيوب الرفض لمركزة القرار السياسي والسيادي كثيرة، منها حركات سياسية تمعشت على الاستثمار السياسي في الأزمات وفي رسم صورة البطولات الوهمية إبان الكوارث، ومنها أخرى تنتظر الاستحقاقات الانتخابية البلدية القادمة، ومنها ثالثة ترى في خطوات الفخفاخ التفافا على نتائج الانتخابات التشريعية والجهوية السابقة، ولا إشكال أخلاقيا واعتباريا عندها في بقاء القرار مترنحا بين دواليب المجالس وبين الحسابات الضيقة للكتل، فيما تعصف الكورونا بالأرواح والضحايا.

وفي الوقت الذي يقوم فيه وباء كورونا بعزل الجغرافيا وتمزيق الفضاء وإعادة تعريف الحدود لا بمقتضياتها المكانية بل بطبيعتها الوبائية، لا مجال للفيدرالية الناعمة وللدولة الرخوة وللقرار المتعثر والسياسي المتلعثم.

وفي الظرف الذي يستثمر فيه الوباء الأزمان البيروقراطية وتطاحن رؤوس الدولة، لمزيد الاستشراء وللانتقال من طور الأزمة تحت السيطرة إلى المحنة خارج الإدارة، يكون من الواجب مركزة القرار في يد فاعل رسمي طليق اليد والصلاحيات، وتحت أنظار البرلمان ومحاسبة النواب.

قد يكون من المجانب للصواب، القفز من الشطط إلى الأقصى، أي الانتقال من سلطة التشرذم إلى سطوة الفرد، ومن الفيدرالية الناعمة إلى المركزية المطلقة، ومن توحش الرأسمالية إلى الدولة الراعية، ولكن الأصل أن يدفعنا وباء كورونا إلى القراءة العميقة في خياراتنا السياسية والاقتصادية والبحث عن بدائل دستورية سياسية واقتصادية متصالحة مع المكان والزمان والإنسان.

9